كلما سمعنا ب”قتيل” (وهذا يتكرر بشكل يومي تقريباً) يكون أول سؤال: هل هو عوايني أم شهيد؟ ويعدّ السائل نفسه لنوع من الشماتة الطازجة تجاه العوايني أو لحسرة غير طازجة للأسف تجاه الشهيد. ومن سوء الحظ أن الحسرة هي الحالة الغالبة في البلد، ويكون السؤال الثاني: أين وكيف؟. وحالما يسقط الشهيد تبدأ حملة من الكتابة على جدران منزله والمنازل المجاورة وكأنها وسيلة لتعليم بيوت الشهداء على طريقة تعليم بيوت من أدوا فريضة الحج بكتابة عبارات مثل “من زار قبري وجبت له شفاعتي”. كثيراً ما تحزنني مجموعة من الشعارات تكتب على الجدران مثل (كلنا..”اسم الشهيد”) ولكثرة الشهداء بتنا كلنا “كلنا” لدرجة يصعب أن نحفظ فيها أسماءنا، فنقوم بإغراق الجدار بعبارة تتكرر بكثافة وهي (“اسم الشهيد” لن ننساك)، وكأن من يكتبها يحاول أن يرسخ اسم الشهيد في رأسه وكأنه سينساه بعد قليل ولن يذكره غير هذا الجدار، وللأسف هذا ما يحصل فعلاً فالشهيد سيُنسى عاجلاً أم آجلاً ويترك أهله تحت امتحان تحمل فقدانه. هناك أمهات فشلن في هذا الامتحان ولم يتصالحن مع حياتهن رغم ما يقدمه الدين من عزاء ووعد باللقاء لاحقاً في الجنة.
أكثر ما يضايقني فعلاً هو أن تهنئ أهل الشهيد بوفاة ابنهم، ففي هذا صلف أعجز عن احتماله، هل يعقل أن تهنئ أم بموت ابنها!، أليس من الأجدى أن نعطي الموت حقه من الألم والتعاطف رغم عجزه العميق، ألا يكون الصمت أبلغ من طقوس الاحتفال القاسية والمرعبة. أتذكر أحد التعازي وقد فرش الأهل فيه طاولة ضخمة امتلأت بشتى صنوف الحلويات في مدخل الخيمة وفوقها لافتة ضخمة فوق المدخل “نستقبل التهاني ويمنع تقديم العزاء”، طاولة باذخة في ما تحتويه وحولها فراغ واسع إذ لم يجرؤ أي من المعزين على الاقتراب منها، وفكرة غامضة تحوم في رأس الجميع إن هم تناولوا أي شيء منها فكأنهم يأكلون من لحم الشهيد. أفكر أحياناً أن هذه الصلابة المخيفة وسيلة الأهل لخداع الألم.. ولو مؤقتاً.
الفرح الوحيد الذي أناله في الجنازات وخيم العزاء هو الحضور اللافت والمدهش لشبان صغار في السن (معظمهم تحت سن الثامنة عشر)، لديهم حماس جنوني وصادق والأهم وعي يتجاوز وعي النخب بمراحل يمنع أي حضور للتطرف الديني، بل هم يتمردون عليه بوضوح ويسكتونه بشعارات مثل “لا سنية ولا علوية ثورتنا ثورة سورية”، إنهم يكثفون التناقض بالصراع مع الديكتاتورية وليس أي شيء آخر. كثيراً ما أقول لنفسي هؤلاء الأمل المتبقي لسورية..
هناك حالات ينكسر فيها روتين الموت مثل إحدى القصص الحديثة التي تتناقلها المدينة حول استشهاد أحد الثوار والذي صادف أن أمه مؤيدة للنظام بقوة، والتي حاولت الاتصال بابنها على الجوال فرد عليها شخص قائلاً : نحن جنود الأسد. أفكر في هذه الأم بحزن عميق، التناقض هنا لا يسمح لك بالتعاطف التقليدي لأنها ببساطة مؤيدة لنظام ديكتاتوري، ولعل التناقض موجود لدى الخصم في هذه الحالة مما يزيح عنّا عبء تفسيره أو التعامل معه ولكن هذا لا يحصل دائماً..ويظل السؤال ضاجاً: كيف لبلدٍ بات الموت فيه طقساً يومياً أن يعيش..؟
اكتشفت منذ فترة قريبة كارثة وهي أن العديد من الفيديوهات المأخوذة لابنتي التي بلغت شهرها الخامس بعد السنة في خلفيتها صوت لقناة الجزيرة أو إحدى القنوات الأخرى التي ترصد واقع الانتفاضة السورية .. إنها كارثة فعلاً أن تقترن الذكريات الجميلة بمشاهد القتل المستمر.. حتى النكتة اللطيفة وقتها والتي كنّا نحدد فيها تاريخ ومكان الفيديو على طريقة الفيديوهات التي يصورها شبان الانتفاضة باتت سمجة جداً ..
بالتأكيد لا مكان هنا للتراجع عن الانتفاضة ولكن من المهم جداً أن نحافظ على إنسانيتنا خارج قالبي البطولة والضحية في خضم هذا العنف الطاغي، ومن المهم أن نعطي الأشياء حقها في الفرح والألم والحزن. من المهم أن نحزن وأن نحتفي بأحزاننا لندرك ما قدمناه ونقدمه من تضحيات، والأهم لنضمن لأنفسنا ألا نصبح كجلادينا.
عبدالوهاب عزاوي
شاعر وطبيب سوري
ونُشرت بالنها
تعليق واحد
تنبيه: كي لا نشبه جلادينا . . بقلم: عبدالوهاب عزاوي « مختارات من الثورة السورية