في لحظات الهدوء القليلة منذ بداية الثورة أجلس مع نفسي وأفكر بالنقاشات التي كنت طرفاً فيها حول الثورة والثوار. ومما لفت نظري ونظر الكثير هو أن الذين يحاورون من أجل “كشف حقيقة” الثورة وإثبات أنها ليست إلا “مؤامرة” يكررون نفس الأسئلة وكأن أحداً قد دربهم عليها. لا أقصد أن أتهم كل سائل “بالعمالة” لصالح النظام، لأن بعض الذين يسألون ليسوا مدفوعين لإثارة البلبلة، بل هم من ضحاياها. وكما ترون، بين يدي أحد هذه الأسئلة المتكررة: لماذا الآن؟ ولأنه سؤال تكرر حتى ضقت به ذرعاً سأدوّن في السطور القادمة إجابتي عليه.
يا سادتي .. إن الأحداث هي التي تجعل التواريخ ذات قيمة وليس العكس. أي أننا نذكر عام 1948 لأن النكبة وقعت فيه ولسنا نذكر النكبة لأنها وقعت في ذلك العام. والحق أن الأيام كلها تشبه بعضها إلا إذا حدثت فيها وقائع جعلتها مميزة وحفرتها في الذاكرة. وتبقى الأهمية للحدث نفسه لا للتاريخ. وكذلك الأمر بالنسبة للثورة، فعام 2011 سيصبح ذا قيمة لأن الثورة حدثت فيه وستذكره الأجيال القادمة لأنه كان عام ميلاد الحرية السورية.
وإذا أردنا أن نكون علميين في تحليلنا فإن التنبؤ بوقت قيام الثورات الشعبية هو من أكثر الأمور صعوبة، لأن الغضب الشعبي ليس له مراحل واضحة وذروة نميز عندها نفاذ صبر الشعوب ولأن الثورات ليس لها مقدمات مميزة نعرف إذا ظهرت أن البلاد مقبلة على ثورة. بل يتراكم الغضب الشعبي ويتعاظم الحنق على السلطة وممارساتها حتى يحدث أمر صغير يكون هو “القشة التي قصمت ظهر البعير” ومن ثم تندلع الثورة الشعبية. وهذا ما يغيب عن فكر الذين يقولون: إن الشعوب العربية تعاني من الظلم والاستبداد منذ سنين طويلة فلماذا لم تختر أن تنتفض إلا الآن؟
نعود فنقول إن الحراك الشعبي من الصعب تحديده بزمان أو مكان بل يكون في الغالب عفوياً ثم يكبر حتى يعصف بالطغاة ويزيح الغمة عن كاهل الأجيال المنهكة. وإذا كان الأمر كذلك فمن العبث أحياناً أن نسأل: عن سبب وقوع الثورة في تاريخ معين لأن العملية تراكمية من جهة وعفوية من جهة أخرى.
وقلت “أحياناً” لأنني لست أحاول في إجابتي هذه أن أتجاهل خصوصية الزمان فالأحداث لا تعزل عن زمان ومكان وقوعها، ولكن ما أحاول قوله هو أن تفاصيل كهذه ينبغي ألا تحجبنا عن الصورة الكبيرة وهي أننا نحتاج هذا التغيير الآن أو في أي وقت آخر. وحاجتنا إليه الآن ليست أقل منها في أي وقت مضى، فلسؤال إذاً: لم لا تقوم الثورة الآن؟
أما الذين يتهمون أياد خارجية أو تخريبية بإثارة الأحداث بحجة أنها تحدث في عام واحد وتنتقل من بلد إلى آخر فأقول لهم: من الطبيعي أن تكتسب الثورات هذا الطابع “المُعدي” لا لأنها تصبح “موضة” ولا لأن يداً واحدة تحركها جميعاً، بل لأن الشعوب العربية ترى ولأول مرة أنها قادرة على تغيير واقعها. لقد كان هروب بن علي من تونس صدمة هزت كيان المجتمعات العربية، وبِتَّ ترى في عيون الناس بريقاً من نوع جديد وتسمع من شفاههم حتى وهي مغلقة همهمة فحواها: لقد استطاعوا طرده!! لم لا نفعل مثلهم؟
إن الآلة الإعلامية التي جيّشها طغاتنا لصالح مناصبهم و ثرواتهم كانت قوية جداً ومؤثرة جداً حتى كادت تقنعنا بأننا لا نملك من الأمر شيء وبأن حكّامنا قد يكونون وحوشاً، ولكنهم من النوع الذي لا يُقهر. فخصوصية عامنا هذا هو أن الشباب العربي كسر فيه حاجز الخوف وهدم أسطورة الحكّام الذين لا يقهرون. ورأت الشعوب العربية واحداً تلو الآخر أنهم يستطيعون أن يكرروا المشهد على مسرحهم وإن اختلفت التفاصيل.
ثم تأتي صفات أخرى تتعلق بهذا الجيل قد تصيب أو تخطئ في تقديم تفسير لوقوع الثورات في هذا الوقت بالذات. منها أن هذا الجيل أكثر انفتاحاً واطلاعاً على العالم المتحضر وأكثر إدراكاً لما يتمتع به أقرانه من كرامة وحرية في بلادهم. ومنها أن هذا الجيل لم يشهد حرباً من الحروب السابقة ولم يعاني ويلات الحروب فكان أكثر شجاعة في اقتحام المجهول. وغير ذلك من الصفات قلت أو كثرت.
المهم هنا هو رد الشبهات التي تحوم حول السؤال والاستنتاجات التي يحاول السائلون أن يصلوا إليها عبر أسئلة كهذه. فمثلاً إذا كان الذين يسألون “لماذا الآن؟” يريدون أن ينفذوا من أسئلتهم إلى أن إسرائيل هي التي افتعلت هذه الثورات، أقول لهؤلاء: لمَ لَم تفتعل إسرائيل هذه الأحداث عام 2006 مثلاً عندما كانت في حرب مع لبنان؟ ألم تكن أحوج إلى اضطرابات شعبية تلهي الشعوب العربية عنها وعن دعم المقاومة؟ ألم تكن أحوج أن يُطرَد السوريون من بيوتهم أو أن يُدَكّوا في المعتقلات بدل أن يستضيفوا اللبنانيين الهاربين من القصف الإسرائيلي حينذاك؟
يا سادتي .. إن إسرائيل هي الخاسر الأكبر من تحرر الشعوب العربية لأنهم إذا تحرروا فسيكونون قادرين على التفكير جدياً بغيرهم وعلى النضال من اجل حرية فلسطين وإذا لم تتحر الشعوب العربية فأنّا لفلسطين أن تتحرر بأيدٍ مكبلة وحناجر صامتة وجيوب مفلسة؟
وأخيراً أقول لمن يتحدث عن خصوصية الزمان: انتظر فأمامنا أيام كثيرة ستكون ذات خصوصية وأمامنا أحداث كثيرة ستكتب في التاريخ بحروف من نور … وحرية.
———————
kalemat haq