منذ أن بدأت الثورة السورية ونحن نستمع دوماً لدعوات تضع المجتمع الدولي أو حتى الدول العربية والدول الإسلامية أمام مواقفها الأخلاقية على أقل تقدير لكي تضع حداً لمسلسل الدم السوري الذي لم يتوقف منذ سنتين وحتى الآن، سنتين وإلى اليوم ما تزال دول العالم أجمع تقف موقف المتفرج حيال ما يحصل في سوريا، وفي تقديري الشخصي أن الدول جمعاء ستبقى على موقفها هذا ما لم يحدث انقلاب حقيقي في القوى لصالح جهة معينة، وهو ما ننتظره جميعاً حتى الآن، وهنا يجب أن نقول أن المعركة أصبحت معارك ! والهدف أصبح أهداف ! ولذا فانقلاب القوى وغلبة طرف على طرف هو أمر في غاية الصعوبة في تقديري “على الأقل خلال النظرة الآنية للمستجدات على الساحة” …
المهم في ما سأكتب عنه اليوم هو سبب وقوف العالم هذا الموقف، حيث يقارن الكثيرين من المتابعين موقف دول العالم من ليبيا وما حدث فيها ومن سوريا وما يحدث فيها الآن مثلاً، وبرأيي أن هذه المقارنة لا تصح ولا تكون، كون أن المقارنة يجب أن تكون بين متشابهين، والوضع في سوريا لا يشبه بأي حال من الأحوال الوضع في ليبيا، ولذا استجمعت أفكاري وأمسكت قلمي وشرعت أكتب في أكثر المواضيع التي شغلت بال الكثيرين خلال هذه الثورة “لماذا تخاذل العالم ومن قبله الأشقاء عن مساعدتنا ؟!” ..
لمعالجة هذا السؤال المحوري وجب عليّ في البداية أن أضع بعض النقاط في الحسبان، وإن أردت أن أجملها فسيكون ذلك بالآتي:
١- وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام ١٩٧٠ بعد هزيمة ١٩٦٧ والتي يعزو الكثيرين الهزيمة فيها إلى حافظ الأسد نفسه .
٢- أحداث الثمانينيات وما صاحبها من تجاهل دولي للجرائم التي كانت تفوق أي تصور في ذلك الوقت “لم نكن قد شهدنا الجرائم التي نشاهدها اليوم !”
٣- احتلال الجيش السوري للبنان والذي استمر لثلاثين سنة متواصلة .
٤- توريث السلطة الثاني من نوعه في التاريخ عام ٢٠٠٠ لصالح بشار الأسد .
٥- احتلال العراق وما تبعه من انعكاسات على سياسة سوريا الخارجية .
سنلاحظ إن أردنا أن نجد رابطاً مشتركاً لكل النقاط والأحداث التاريخية التي سبق لي ذكرها هو أن الأطراف الدولية والقوى العظمى في العالم كانت وما زالت تغضّ الطرف بشكل أو بآخر عن كل ما فعله ويفعله النظام في سوريا سواءً على أرضها أو خارج حدودها، واستمرار نظام سياسي لمدة إحدى وأربعين سنةً متواصلةً ما هو إلا نتيجة صفقات سياسية بالغة في التعقيد، وفواتير باهظة الثمن دفعها النظام كي يضمن بقائه طوال هذه المدة كلّها، والغريب أن النظام “ومع انتمائه فكرياً للكتلة الشرقية” إلا أنه استطاع تسيير أموره وإرضاء كافّة الأطراف، فلقد أرضى الشرق والغرب، ولعلّ أدل دليل على كلامي أن رأس النظام “بشار الأسد” كان مرضياً عنه أوربياً بالكامل يوماً ما، حين حضر ضيفاً معززاً مكرماً في باريس واستقبله الرئيس الفرنسي يومها استقبالاً حافلاً !
اليوم .. النظام على حافة السقوط، العالم كلّه مدركٌ لهذا، جميع الأطراف الإقليمية والدولية تعرف حقّ المعرفة بأن النظام ساقط لا محالة، بل أجزم أن أطرافاً رفيعة المستوى في النظام قد أدركت هذه الحقيقة وآمنت بها .. ولكن يبقى السؤال : كيف ومتى ؟ وهل سيتدخل العالم أم لا ؟ ولماذا تأخر كثيراً ؟!
أما إجابة السؤال الأول “كيف ومتى؟” فالعلم عند الله ! والجمود الذي تشهده الحالة الميدانية قد أصاب الكثيرين بالإحباط ! والأمر بلا شك يحتاج إلى انقلاب قوى جذري كما ذكرت في البداية، وأما ما أستطيع الجزم به، أن الشعب لن يُثنيه عن مشواره لا السكود ولا الكيماوي ولا شيء ! فقد اختار طريقه بوضوح وثبات، مع أن الكثيرين من الثوار فقدوا الاتجاه الصحيح وضاعت بهم السبل وأصبحوا يقدمون شيئاً على آخر ! ولكن أجزم أن الجميع اختار إسقاط النظام مهما كلّف الأمر ذلك ..
وعلى الناحية الأخرى لن يُسقط النظام تحركات لا تتعلق بشكل أو بآخر في دمشق، على أهمية جميع المناطق بالنسبة لنا وعدم التفريط في شبرٍ منها ولكن أرى بأنه يجب تكثيف قوى الثوار اليوم حول دمشق ومراكز النظام فيها كون تحريرها يعني سقوط النظام بالكامل ..إذن الوضع الميداني شبه جامد، ولم يستطع أحد حتى الآن أن يكسب المعركة ..
وإجابة السؤال الثاني: والذي هو محور الحديث “هل سيتدخل العالم أم لا ولماذا تأخر ؟”
فالراجح أن العالم لن يتدخل، “وأقصد بالتدخل هنا: التدخل العسكري المباشر كما حصل في ليبيا، أو حتى تزويد الجيش الحر بالأسلحة” فالعالم لن يتدخل على هذا النحو على الإطلاق ما لم يكون هناك انقلاب قوى وانتصار واضح لطرفٍ على آخر، حينها فقط سيتدخل العالم ليقتسم الغنائم ويضع موطئ قدمٍ لحكومة جديدة ستكون موالية له ولأجنداته التي سوف يفرضها عليها ..
وعدم تدخل العالم يتبعه بالضرورة عدم تدخل أي دولة من الدول العربية والإسلامية، فالجميع لا يرى مصلحة له في ذلك، مع أنّ تحوّل الصراع إلى صراع دولي بامتياز أمرٌ لا يجب علينا أن نتجاهل خطورته على الإطلاق ! ولا يجب علينا كذلك أن نخلط بينه وبين التدخل العسكري الذي نتحدث عنه، فالذي يحصل في سوريا الآن من تدخّل عدة دول عسكرياً هو فقط لإطالة أمد الحرب أقصى فترة ممكنة، وليس تدخلاً لإسقاط النظام، وهذا الأمر لا يخفى على أحد الآن، فسوريا أصبحت تحوي الروس والإيرانيين وجنود حزب الله وعدد من ميليشيات شيعية أخرى من عدة دول “كان آخر من سمعنا بهم أفغان شيعة !” ، كما تحوي على الطرف الآخر كتائب مسلحة تحمل أفكاراً وأيديولوجيات محددة تمولّها وتغذيها دول راعية لها أصبح أمرها واضحاً للعيان، كما كانت آخر الصيحات التي سمعناها هي كتائب تتلخص مهمتها في حماية الأقليات والنأي بهم عن الصراع ! وهذه الكتائب مدعومة من دول أخرى لها كل المصلحة في تغذية الصراع في سوريا تغذية طائفية !
المهم .. أن المشهد الميداني يشهد عدّة تدخلات عسكرية أجنبية ولكنها بشكل أو بآخر تزيد من أمد الحرب ولا تساهم على الإطلاق في إسقاط النظام وهو الهدف الأساسي للثورة ..
أما لو أردت ذكر الأسباب التي تجعل العالم يقف موقف المتفرج فهي من خلال تحليلي الشخصي على النحو التالي:
أولاً: إن القوى الدولية طالما اعتمدت عدة توازنات سياسية في المنطقة، ولطالما كانت هذه التوازنات السياسية سبباً مهماً برأيي لأن تقف القوى العالمية موقف المتفرج الذي يغض طرفه عن النظام، ليس الآن فقط، بل طوال الأربعين سنة التي حكم النظام فيها سوريا، هذه التوازنات هي التي ضمنت الكرسي لآل الأسد طوال هذه الفترة ..
وأقصد بالتوازن السياسي هنا هو حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة منذ عقود، فالمنطقة يُراد لها أن تعيش حالة عدم الاستقرار هذه، وجميع الأحداث التي هزّت المنطقة خلال الخمسين سنة الماضية كانت أهميتها الأولى هو خلق هذه الحالة التي أتحدث عنها، فاعتراف مصر بإسرائيل وقيام ثورة الخميني وحروب صدّام في الخليج وصولاً إلى احتلال لبنان من قبل سوريا كل هذه الأحداث وغيرها كانت مهمتها الأولى هي خلق عداوات وحالة من التباعد والفرقة والحروب أحياناً بين دول هذه المنطقة ..
كما أن هذه الحالة خلقت توزاناً بين حالات الشدّ والجذب السياسي بين الدول، وخلقت نوعين من الدول: فالسعودية والخليج ومصر في طرف مقابل إيران والعراق وسوريا في طرفٍ آخر .. وهكذا عاشت المنطقة عقوداً تحت هذه التجاذبات السياسية لتشيح بوجهها وتتناسى عمالة الجميع لأطراف غربية كما تشيح بوجهها عما تفعله إسرائيل وما تكتسبه من مكاسب يومياً بفضل هذه الاختلافات “لا يفهم أحدٌ من هذا الكلام أنه دعوة للتقارب بين دول المنطقة !” ..
تصوروا لو أن النظام في سوريا سقط، سيتبع ذلك سقوط حزب الله في لبنان ! فسوريا مصدر القوة الأساسي للحزب، ومع أنه يستمدّ قوته الأساسية من إيران ولكن سوريا هي معبر الدعم الأساسي له، كما أن سقوط حكومة المالكي وسقوط الوصاية الإيرانية عن العراق أمرٌ لا شك في حدوثه، وسيستمد حينها الشعب الإيراني القوة ليخرج ويتظاهر ضد النظام هناك، فهناك ألف سببٍ يدعوه للتظاهر، وقد يكون هذا سبباً رئيسياً لدعم إيران الغير متناهي للنظام السوري ..
وكل هذا بالطبع لا يفيد السياسة الغربية في المنطقة، فهذا سيُنهي مفهوم التوازن السياسي وسيصبح هناك شبه إجماع من دول المنطقة على سياسة واحدة مقابل السياسة الأخرى التي ستنتهي وتموت حينها .. فسوريا إذن نقطة ارتكاز لهذا التوازن وما زالت تقوم بهذا الدور حتى الآن ..
ثانياً: إن تدمير سوريا اقتصادياً وعسكرياً وبنيوياً هدف استراتيجي مهم جداً بالنسبة للدول الغربية ومن وراءها إسرائيل، فسوريا صاحبة الجيش رقم ١٥ على مستوى العالم من حيث العدد، وسوريا تمتلك أسلحة لا تمتلكها دول كثيرة في المنطقة “ليست السعودية أولها ولا مصر وتركيا آخرها !” ومع أنها تُعتبر قديمة ولكنها ما تزال فعّالة بشكل كبير، كما أن سوريا تمتلك قدرة اقتصادية هائلة، جعلتها من الدول الرائدة “مع كل الظروف الغير مواتية” في مجال الصناعة والزراعة في المنطقة، كما أنها تمتلك رؤوس أموال لا بأس بها، كلّ هذه تشكّل أسباباً مهمة لإطالة أمد الحرب في سوريا من قبل الغرب، فوجود كل هذه المقوّمات تحت يد حكومة وطنية نزيهة لن يسرّ لا القوى الأجنبية ولا إسرائيل أبداً !
إذن المخطط واضح، إطالة أمد الحرب أكبر قدر ممكن، للسببين الذين ذكرتهما في الأعلى، ولكن النظام سيسقط عاجلاً أم آجلاً، وسيتخلى حينها العالم عن السبب الأول، لأن سوريا ستعود إلى الوراء أكبر قدر ممكن، وستكون الجهود كلها منصبّة على إعادة الإعمار وإزالة آثار الحرب بدلاً من التفكير في تطوير البلد وتحديثها على جميع النواحي ..
للأسف .. المخطط يجري بنجاح حتى الآن بالنسبة لهم ! وهنا أنادي بقية الضمير الموجودة لدى الحكام العرب والمسلمين أن يفعلوا شيئاً ! وإن كنت أعلم يقيناً أنهم لن يفعلوا شيئاً ! فسأحذرهم حينها من أن سقوط سوريا كوطن سيتبعه سقوط دولهم وكراسيهم جميعاً ! والأيام حُبلى !!
ودمتم ..
إبراهيم حسن
٢٠١٣/٣/٢٥