جميل الدمشقي
في غمرة الدموع والآلام… والدماء والأصوات المتعالية التي لا يمكنها أن تعلو عن صوت الرصاص والمدفع والصاروخ وحتى السيوف والخناجر التي تخصصت بالحناجر… لمحته قادماً من بعيد وأنا مثقل بتعب يوم كله هروب في هروب… ومما أهرب… من الموت طبعاً.
قلت له وهو منذ جاء حارتنا… وبدأ الجميع يتناقل أناقة هندامه… وعدم تكرار ألوانه… ومشيته الموزونة في قطع الطريق باتجاه الجامعة… فهو أول أستاذ جامعي يسكن حارتنا.
أتذكر ذلك الزمن الذي كان فيه أطفال الحارة يسكتون ويتوقفون عن اللعب.. لمجرد مروره… وهذا ما جعل الجميع يعرف بمواعيده المقترنة بالصمت.
بصمت واحترام تقدمت منه يوم رأيت استمارة الجامعة وقد طلبوا مني أن أضع فيها ما أريد من فروع لينتقوا هم لي المناسب منها… لم أكن أعرف إلا اختياراً واحداً… أو أنه بالحقيقة… حلم واحد… أن أصير مثل الأستاذ.
قلت له: استاذي… أريد أن أنتقي جامعة أدرس بها.. لأصير مثلك.. فماذا أختار؟
نظر إليّ وقال: اختر الذي تريد… فمثلي أنا لن تكون… ليس لأنني فريد.. بل لأن هذا المجتمع الذي نعيش فيه… هو الفريد
طبعاً في عمر ذاك اليوم.. لم أفهم ما قال… ودرست معهد هندسي… وعملت مع أبي في بيع الحبوب وتزوجت من أستاذة موسيقى قالت يوم خطبتها أن لديها “أوكريديون” على السقيفة ببيت أهلها.. لكني لم أره.
لم أره إلا أمامي بعد هذه السنين لكنه لم يتغير… لكنها الفرصة الثانية في حياتي التي أقابله فيها… وسارعت بالقول:
أستاذي… هذه حال البلاد… والسؤال: إلى متى الانتظار؟؟!!
صمت… ونظر وكأنه يرجع إلى يوم اللقاء الأول… هكذا توقعت أنا.. ولكن ما أكد توقعاتي اجابته حين قال:
أنا أدرس في الجامعة علماً اسمه: التخطيط