الشهيد إبراهيم شيبان، عمره 9 سنوات، استشهد أمام جامع السلام في حي القدم بدمشق بتاريخ 10/14 – جمعة أحرار الجيش، أطلق الأمن النار عليه فدخلت الرصاصة في قلبه وخرجت من كتفه.
غضبت بالطبع كما غضب جميع الأحرار، فهذه طفولة اغتيلت.. طفولة عمرها 9 سنوات.. طفولة بريئة.. نظرت إلى وجهه فتأثرت واستمعت إلى أبيه وهو يرثيه فبكيت، ومن لا يغضب ومن لا يبكي عندما تغتال الطفولة بهذه القسوة وبهذه الوحشية.. أكثر من 236 طفل قتلوا في سورية منذ بداية الثورة في 15 آذار.
قررت أن أحضر تشييع الشهيد رغم أنني لا أسكن في دمشق بل في ريفها، ولكني لم أحتمل ألا أشارك إخوتي في دمشق وأهل الشهيد عزاءهم، أردت أن أغضب معهم، أردت أن أصرخ في وجه من قتل فقيدهم.. وهذا ما كان فإليكم القصة:
كان من المفترض أن يبدأ التشييع بعد صلاة الظهر من جامع الدقاق، نزلت إلى هناك ولكن الطريق إلى هناك كان مزدحماً وهو لم أحسب حسابه، إذ اليوم عطلة وفي العادة دمشق تكون فارغة أيام العطل. لذا وصلت متأخراً بعد انتهاء صلاة الظهر لكنّ صلاة الجنازة لم تفتني والحمد لله.
في الطريق كنت أبحث عن الأمن.. أين اﻷمن؟ عادة ما يملأ الأمن الشوارع والساحات في هكذا حالات.. لكنني لم أرَ أيّ تواجد للأمن رغم أنني مشيت من تحت الجسر قرب جامع زين العابدين حتى الدقاق ولم أرَ عنصر أمن واحد.. هذا الأمر أثار استغرابي.
قبل أن أدخل المسجد كانت عشرات النسوة يقفن أمام الجامع بانتظار خروج الرجال والجنازة، كانت الحركة في سوق أبو حبل طبيعية.. دخلت إلى المسجد فوجدته يغصّ بالمصلين.. حتى صحن المسجد كان ممتلئاً عن آخره.. وحسبما أعلم فإن مسجد الدقاق هو من أكبر مساجد دمشق وربما لا يسبقه في الحجم إلا المسجد الأموي الكبير، لذا فتوقعت أن المظاهرة ستكون ضخمة.
عندما دخلت المسجد كان المصلون قد فرغوا للتوّ من صلاة الظهر.. لكنّ حميّة بعض الشباب الغاضبين سبقت فبدأوا بالتكبير داخل صحن المسجد فحاول العقلاء إسكاتهم إذ أن الجنازة لم يصلّى عليها بعد.. سكت الشباب وبدأت الصلاة.
صلينا الجنازة وما إن سلّم الإمام حتى بدأت أصوات التكبير بالهدير.. كان المشهد مهيباً: شباب غاضب يتّقد حماساً.. صوت الهتاف كان قوياً جداً فالكل كان يهتف بأعلى صوته: “هييه ويالله.. ما منركع إلا لله” و”بالروح بالدم نفديك يا شهيد”.. خرجنا من المسجد فاستقبلتنا الحرائر بالزغاريد.. رغم أنني كنت من أوائل من خرج من المسجد إلا أن الشارع كان ممتلئاً بالمتظاهرين.
بدأت الجنازة بالسير.. وللعلم فإنّ جنائز الشهداء في سوريا ليست صامتة بل يسودها الغضب والحماس وعادة ما تكون المظاهرات المصاحبة للتشييع من أجمل المظاهرات والأعداد تكون كبيرة للغاية.
لم أستطع تقدير الأعداد فالشارع كان ممتلئاً حتى إنني لم أستطع رؤية بداية أو نهاية المظاهرة فقد كنت أقف في المنتصف.. سرنا في سوق أبو حبل بسرعة بطيئة.. الهتافات كانت متعددة وكل مجموعة من الناس تهتف لوحدها لعدم وجود مكبرات للصوت توحد الهتاف.. وهذه ثغرة تنظيمية فالمكبرات تسهم في ضبط المظاهرة وتوحيد هتافاتها.
مما استرعى انتباهي هم المشاركون فقد كان أكثر من 90% منهم من الشباب ومعظمهم دون الـ25 سنة، كان هناك بعض كبار السن لكنهم قلة والحرائر أقدر عددهم بالعشرات.. لكن كان هناك الكثير من كبار السن وبعض الشباب يقفون على الرصيف يراقبون الجموع بدون إبداء أيّ تفاعل.. لا تعلم هل هم معنا أم هم معترضون علينا؟!.. هذا المشهد المتمثل بسلبية كبار السن عهدته في معظم المظاهرات التي حضرتها، تراهم يقفون على جانب الطريق ينظرون إليك بنظرات الدهشة والعجب وانعدام المشاعر وهذا يزعجني كثيراً.. لماذا هذه السلبية؟ لكثرة ما شاهدت المشهد هذا بتّ أؤمن بأن السبب بأن كبار السن يخشون التغيير ويحبون الروتين.. والمظاهرة ليست روتيناً بالتأكيد..
هذه المظاهرة من أكبر المظاهرات التي شاركت بها وهي الأجمل على الإطلاق.. فمشاعر الغضب كانت بادية على الجميع، لم يكن أحد يوفر حنجرته، الكل يصرخ ويصفق وبعضهم يقفز حتى.. والمشهد الذي أحببته هو “الحلقة الدوارة” حيث يتكاتف الشباب ويبدأون بالدوران والقفر والهتاف التقليدي هو “هوووو.. هوووو.. يلعن روحك يا حافظ..” المشهد غاية في الروعة، وأعتقد أنّ أهل حمص هم من اخترعه.. مارست هذا الطقس الثوري عدة مرات وكان من أجمل ما فعلته في التشييع.
الحرائر كنّ ملح هذه المظاهرة، فقد أضفين عليها رونقاً خاصاً.. لم يكفوا عن الهتاف وإطلاق الزغاريد.. لكنّ صوتهن كان يضيع بين صوت الرجال الأجش، بعضهن كن يقدن الهتاف ويحمسّن الرجال.. ولم يكنّ كلهن محجبات فقد رأيت بعض غير المحجبات.
وصلنا إلى نهاية السوق ثم انحرفنا يميناً حتى وصلنا إلى ساحة الأشمر.. هنا وقفت على جانب الطريق على مرتفع بسيط واستطعت رؤية المظاهرة.. قدّرت الأعداد بـ10 آلاف وربما كان العدد أكبر.. لكنه لا يزيد عن 15 ألف.. طبعاً وجود هذا العدد في وسط دمشق يعتبر هائلاً وغير مسبوق..
المقبرة قريبة من الساحة لكن استغرق وصولنا إليها أكثر من نصف ساعة.. فلا أحد يريد انتهاء هذه المظاهرة.. يعني ليش مستعجلين؟ شو كل يوم الواحد بتصحلو هيك عزيمة!.. وقبل دخول النعش إلى المقبرة أتيحت لي فرصة المشاركة بحمله وكانت لحظة رائعة وشرف كبير لي، لكنها لم تدم إلا ثوان فالتدافع كان كبيراً تماماً كمشهد الحجر الأسود
عند باب المقبرة كانت هناك لوحة رخامية كتب عليها “حافظ الأسد” وهي تعني أن افتتاح هذه المقبرة كان برعاية المقبور.. طبعاً قام الشباب بتكسيرها ووضعوا علم الاستقلال عند الباب وكذلك صورة الشهيد.
هنا بدأت الأحداث تأخذ منحى آخر.. كنا قد قفلنا عائدين إلى الساحة وعلى يسار باب المقبرة توجد حارة صغيرة وفي نهايتها بعض البيوت الشعبية.. بدأ أهالي هذه البيوت باستفزازنا ورموا الحجارة علينا.. فبادرهم شباب غاضبون.. تدخل العقلاء وأقنعوا شبابنا بالتوقف والانسحاب.. وفعلاً انسحب الشباب من الحارة وتابعت المظاهرة.
كنت واقفاً بجانب الحديقة عند الساحة فسمعت حرّة من الحرائر تصيح: “عوايني.. عوايني”.. قفز عدد من الشباب إلى داخل الحديقة حيث هرب العوايني المفترض.. رأيته ومنذ الوهلة الأولى عرفت أنه عوايني.. منظره قبيح للغاية.. أمسك به الشباب وبدأوا بتلقينه درساً (لا أعلم ماذا اقترف مع الحرّة حتى عرفته).. ثم فرّ منهم وأخرج مسدساً كان يحمله على خصره ووجهه علينا.. ثم هرب الحقير..
فوراً بعد هروب العوايني سمعت أصوات إطلاق رصاص قادمة من أمام باب المقبرة.. طلقة أو طلقتان.. بدأ الناس بالهروب.. حمل الشباب الحجارة وبدأوا بقذفها باتجاه باب المقبرة.. وقفت بضعة حرائر في منتصف الطريق وصرن يصحن: “ليش خايفين.. الله معنا” و “لك ارجعوا.. لك ارجعوا..” هذا الموقف يعتبر غير عادي ولكنني لم أستغرق في التفكر فيه.. فهناك أمور أهم.. إطلاق رصاص حي!
رجعت إلى الوراء وحاولت تفهّم الموقف.. فالأمن غير موجود إذن من يطلق النار؟.. اقتربت فإذا بأطفال يمسكون بالحجارة ويرمونها باتجاهنا.. ومن ورائهم بضعة رجال يمسكون بنادق ومسدسات.. إذن افترضت بأنهم أهل المنطقة.. جاءت الأخبار سريعاً: إنهم موالون للنظام.. وهمس أحدهم في إذني: هؤلاء علوية!
لربما لم يرقهم أن نلعن “قائدهم” بهذا الشكل، أو انزعجوا من كثرة عددنا.. لا أعلم
نظم الشباب صفوفهم وقادوا حملة شرسة للهجوم عليهم: “الله أكبر.. عليهم”.. وانهالت الحجارة على “الشبيحة” لكن فوراً بادرونا بإطلاق الرصاص وهنا وقعت أول إصابة.. وضعوها في سيارة بيضاء وأسرعوا بها للإسعاف.. لم أتمكن من النظر إلى المصاب فالناس كانت تحيط بالسيارة.
زاد غضب الناس وزاد الهرج والمرج في المكان.. الناس منتشرة في الساحة.. الأتستراد مقطوع.. لا يوجد شرطة.. لا يوجد أمن.. لا يوجد دولة.. والأمور فلتانة.. طبعاً واضح أنّ هذا مقصود ومنظم له.. والدليل: اصرخ “الله أكبر” تحت باب منزلك ثلاث مرات.. ستجد الأمن حاضرين خلال دقائق.. فأين هم الآن؟ أين الشرطة؟
كلما فشلت هجمة في إعادة الشبيحة إلى مكانهم.. قاد الشباب هجمة أخرى.. ومع كل هجمة يطلق الشبيحة النار وأيضاً الخردق والحجارة عبر الأطفال.. وفي كل مرة تحدث إصابات.. هنا شاهدت شاباً يسيل الدم من وجهه بغزارة.. سارعنا إليه ومسحنا الدم عن وجهه فتبين أن رأسه قد شجّ والجرح كبير.. اصطحبه أحدهم للإسعاف.. لحقت به لأساعده فوجدت فتىً آخر ملقى على الطريق .. كان مصاباً في يده وأعتقد أنها رصاصة.. كما شاهدت الكثير من الإصابات برصاص الخردق.. وهي إصابات طفيفة لكنها قد تكون مؤذية خاصة عندما تصيب الوجه.. وقد شاهدت شاباً يسيل الدم من وجهه منها فقد أصابته العديد من طلقات الخردق..
لكن هنا هل كنت خائفاً؟ طبعاً لا.. فالخوف قد مات بداخلي منذ زمن.. لكنني مع ذلك لا أملك الشجاعة الكافية التي رأيتها من بعض الشباب وهم يقفون على مقربة من الشبيحة ويقذفونهم بالحجارة.. ربما أنا حريص.. غير متهور.. لكنني لست جباناً.. ماذا كنت أفعل؟ أقف قريباً من الحدث.. أتابع.. أرقب الناس.. أحاول مساعدتهم..
هنا تفرق الناس واتفقوا على الانسحاب لأن الشبيحة مصرون على موقفهم وقد كانوا يتقدمون شيئاً فشيئاً.. توجهت إلى شارع خالد بن الوليد مع بعض الشباب واستمرينا في لعن الأسد وعائلته والتظاهر.. الطريق مقطوع.. لا أمن.. الناس في البيوت تنظر إلينا باستغراب.. أنا عن نفسي لم أصدق المشهد..
بقينا نهتف حتى وصلت إلى مدرسة عمر أبو ريشة هنا كان العدد صغيراً جداً.. ومع ذلك استمر اللعن والهتاف.. نظر بعضنا إلى بعض وقلنا: “لهون حاجة..” كل واحد يروح على بيته.. أما بقية المتظاهرين فقد عادوا عبر سوق أبو حبل ولا أعلم ماذا حدث معهم.
هذا ما حدث معي في التشييع.. لكنني لن أسامح من أفسده علينا.. فقد سقط شهيدان أثناء التشييع.. وأفسدوا علينا فرحة انتفاضة دمشق… لن أسامحهم…
———————-
عن مدونة صبحي Sub7ei Blog
تعليق واحد
هذه ليست مدونة الكاتب والمعارض السوري المعروف صبحي حديدي، فنرجو التصحيح منعاً للالتباس، وشكراً