لطالما شاهدتهم أنا وأصدقائي يشترون القهوة أو الشاي، يخرج أحدهم الليرات من جيبته، يواجه صعوبة في مد يده بين الدرع البلاستيكي والبذلة. بعضهم يرتدي الخوذ، والبعض الآخر يضع لفافة حول رأسه. أتفرس في وجوههم، لم أقدر عمر أكبرهم بأكثر من ثمانية عشر عاماً أو أكثر بقليل. تأملت أحدهم مرة وقلت في نفسي: لا بد أنه بعمر أخي الأصغر، أو ربما أصغر منه. كم هم مساكين. هم ذاتهم من ركضوا علينا يفرقوننا بعد انتهاء المظاهرة، وتلقيت من أحدهم ضربة على ظهري.
يرمون عليهم الحجارة، ينعتونهم بالخونة، أشاهدهم من خلف الباب الحديدي، أضحك في سري عندما يفرون هاربين، ما بالكم! أنتم المدججون بالأسلحة والعصي، تهربون من أمام الحجارة! كيف لكم أن تحرروا الجولان! حمقى!
انتهت اليوم المظاهرة، تفرقنا، سلكنا طريقاً صادف أنّ حوالي العشرين منهم قادمون نحونا، مشينا أنا وصديقي مشية طبيعية كي لا نثير شكوكهم، علماً أن مجرد التواجد في تلك المنطقة، في تلك اللحظة، كان كافياً لاعتقال أحدنا. مررنا بينهم وكنا نلهث. مررنا بخير، فقلت لصديقي، كم هم أغبياء! لهاثنا واضح بعد أن ركضنا، قفزت قفزة لم أكن لأقفزها لو فكرت بذلك، ومع ذلك لم يلحظونا! ضحكنا عليهم.
جلسنا أنا وأصدقائي على الحجر، نشرب القهوة وندخن، دخل عدد منهم ليغتسل في مكان قريب، وانتظرهم صديقاهم خارجاً بالقرب منا. أحد أصدقائي “الحشورين” تحارشهم. “الله يعطيكم العافية، تعبتوا اليوم”، ترددوا في الاستجابة. “مانكن مشوبين؟”، همهمات. لا أذكر العبارات التي ذكرت بعدها. قدمت لأحدهم سيكارة. “اي والله، صرلنا مقطوعين من الدخان 5 أيام”. وبدأنا نحن. “من وين الشباب؟”، “شو انتوا، أمن ولا جيش؟”، “…؟”، “…؟!”، “…!!!”، وهكذا.
كان له شارب، وجهه أسمر، تراه من بعيد فتكيل له ولمن يشبهه الشتائم، يقترب منك فتخاف منه، تسترق نظرة إليه وتغير وجهة نظرك، وتغير بعدها وجهة سيرك، وتشتم، وتسب، وتلعن. ابتسمَ! رمينا له نكتة فضحك! “كم يبلغ وزن هذه الخوذة؟” بعضنا قال 2 كيلو، الآخر 5 كيلو. نزعها عن رأسه وأعطانا إياها نتحسس وزنها! ابتسامته لا تغيب عن مخيلتي، وتستحضر دمعتي. براءته، وأشدد وأؤكد على كلمة براءة بكل ما تحمل من معنى، براءته لم تخطئ طريقها إلى قلبي. نعم، نعم، ليس شيطاناً، ولا قاتلاً، ولا …، ولا …
صديقه كان أكثر جرأة قليلاً، طلبنا منه عصاه المطاطية. اكتشفنا أنها تلتوي، ومؤلمة!
شوقه لزوجته، لعائلته، لمدينته، لعمله، باح بكل أشواقه.
سيكارة ثانية، وثالثة، ورابعة، ونستمر بالحديث. نلتفت يمنة ويسرة، تلاحقنا نظرات الاشمئزاز من الواقفين والمارين. قد نكون بنظرهم من المؤيدين، المتعاطفين، الشامتين، الواشين بالمتظاهرين، كل التهم ممكنة لمجرد جلوسنا معهم. كنا ننتظر العودة والتحقق من صفحات كشف الشبيحة والفسافيس لئلا تكون صورنا قد انتشرت هنا وهناك وأصبحنا من المستهدفين من حيث لا ندري.
هم أيضاً حذرون من رفاقهم، لئلا يخبروا المسؤول عنهم.
نحن: “لمَ القسوة؟”، “اضربوا، ولكن لا تستهدفوا الرأس”.
هم: “والله العظيم نحن لا نريد ضرب أحد، نحن مأمورون، قلنا لكم أكثر من مرة، تفرقوا، فلم تفعلوا.”
“نرجوكم في المرات القادمة إن قلنا لكم ذلك، أن تتفرقوا”
“زميلي كان يضرب أحد المتظاهرين بشدة، أخذته منه كيف لا يضربه أحد، وأوصلته إلى الباص، ذلك أقصى ما استطيع فعله”
نحن: “قائدكم يقول لكم تقدموا، وهو في الخلف! ألا يتقدم معكم؟”
هم مدافعين عن قائده: “هو ليس مدرعاً!” … إذاً يحق له أن يرسلكم إلى حيث لا يجرؤ هو!
أخبرونا عن طعامهم، وشحه، ونوعيته. عن نومهم، ولا نومهم.
نحن، ومرة أخرى: “لمَ القسوة؟”
هم: “مشتاقون لأهلنا، نتمنى لو يعطوننا إجازة ولو ليوم واحد، لنودعهم قبل أن نسشتهد! معظم أصدقائنا في كتيبة أخرى قد استشهدوا. أين سنذهب بكل هذه الضغوط؟ نفرغ شحناتنا هنا”
“الجيش الحر؟”
“يلعن … أنا ناقم عليهم … منهم من كانوا مثلنا، ومنهم أناس عاديون. يستهدفوننا ولا ذنب لنا. أنا لم أقتنع بهم، ما ذنبنا نحن؟”
“ألم تحفظ وجوهنا لتخبر عنا؟”
“أنا مشتاق لزوجتي! أنا وين وانتوا وين! أريد إنهاء هذه السنة والنصف، وأعود لعملي، وأحضر الخبز والطعام إلى بيتي، وفخار يكسر بعضو”
“في مهجعنا سخانة كهرباء، ولكني في شهوة لشرب كاسة شاي منذ أيام، يلعن أخت هالحالة”
عملت له كوب شاي، وقامت صديقتي بإعطاءه بسكويتة. اغتسل وارتاح وشرب الشاي.
من يعرفوننا جيداً، يقتربون لإلقاء السلام علينا، البعض تفاجئ، فحاول تغيير طريقه بعد فات الأوان، فاضطر في النهاية إلى السلام علينا مجبراً، البعض سلم ممتعضاً، والبعض شكك في تغير مواقفنا، أو أننا كنا نخدعه طوال هذه الفترة. البعض ممن كان واقفاً معنا انسحب بهدوء، خوفاً من أن يحفظ الناظرون وجوهنا فنصبح هدفاً.
بالنسبة لي، لم أكن مخطئاً. إن تواصلي الإنساني مع هؤلاء الأشخاص نفض غباراً كثيراً عن قلبي. لم أعرف ماذا حركت أنا في نفس أولئك الأشخاص، ولكن بالدرجة الأولى عرفنا بعضنا البعض، على أننا وببساطة شديدة: بشر! نعم نعم! هذه البديهية الأولية البسيطة، غابت عن إدراك الكثيرين من الطرفين. وهنا يحضرني قول ذلك الرجل الشهير: “أنا إنسان ماني حيوان!”. اليوم رأيتها في عيونهم، يقولون لنا أننا مثلكم، في كل شيء، كل كل شيء! نعم، حتى تلك الفكرة التي لمعت في خاطركم الآن، هم “مثلنا” فيها!
“عنا علم أبو 3 نجمات!!! شي على كيفكن!”
“ما بتخافوا من الفسافيس؟!”
ولكن لا حول لهم ولا قوة. تلك النظرات، لا تزال تحرك الحزن في نفسي حتى الآن، حزين لأن أبناء الوطن يقتتلون فيما بينهم، وهم أقرب ما يكون إلى الأخوة، بفعل ممنهج من قبل الكبار. دفع أبناء البلد الواحد إلى الاقتتال. ولكن، وبرغم كل الحزن، فإن هنالك فرحاً عميقاً غمرني، فرحي بأني لمست ذلك الإنسان في من صُّوروا لنا، أو رأيناهم، على أنهم وحوش ضارية. لا بد أنهم أيضاً أحسوا بمحبتنا لهم. تلك الساعتان ليست سوى بذرة زرعناها اليوم، لا بد أنها ستنمو، عندي شعور أكيد بذلك. لا بد لا بد أنها ستثمر. أرجوكم ازرعوا مثل هذه البذور! أرجوكم!
——————————
توقيع متظاهر من قلب الحدث
تعليقان
تنبيه: مشاهدة حية من إحدى أكثر المناطق تكراراً للمظاهرات في سورية « مختارات من أحداث الثورة السورية
ستثمر…
ولو ظن العالم أنه من المستحيل أن تثمر……