في أيار 2001 زرت مدينة معرة النعمان .. كانت المدينة تضج بالحركة وبنبض أهلها الطيبين، المضيافين، الكرماء .. مدينة أبي اعلاء المعري، الذي التقطنا صوراً تذكارية جانب ضريحه في المركز الثقافي للمدينة .
لم يكن ربما أي من أهلها يعلم يومها أن آلة الغدر والقتل والدمار لعصابة السلطة التي تُرِكتْ تسرح وتمرح في سورية، ليس بسبب ضعف أهلها، ولكن بسبب وطنيتهم، حيث أنهم استسلموا لقدرهم أمام سلطة الفساد بسبب أكذوبة المقاومة والممانعة التي انبرت اليوم لتدير فوهتها إلى صدور مدنيي البلدة وتحصد أرواحهم البريئة الطاهرة في مسلسل القتل والرعب المشين الذي لا يتوقف أمام سمع العالم الآثم وبصره الضعيف.
الأسبوع الماضي قادتني أحد المشاريع التي انطلقت من فنلندا لإغاثة المدينة المنكوبة لأزور معرة النعمان الحبيبة وأغتسل بروح الثورة المتوقدة فيها كأقوى ما يكون التوقد في سورية برمتها.
أفجعني منظر الركام فيها .. ومرارة من تبقى من أهلها …
قال لي أحد المطلعين على خفاياها وأسرار بطولاتها، “يحسب للمعرة أنها لم تدع أي قطعة من آلة الموت أن تمر من خلالها .. لقد حافظت على عذرية الأماكن التي حررها الأهالي من قبضة السلطة المجرمة، ووقفت رغم فداحة الثمن أمام أي محاولة للاختراق” هذا العمل البطولي الجبار الذي لا ينسى والذي يجب أن يسجله تاريخ وذاكرة الشعب السوري لهذه المدينة العظيمة.
ذهبنا برفقة الجيش الحر من أهالي المدينة إلى خط جبهة وادي الضيف، كان قذائف السلطة الغادرة قد أودت يومها بحياة بائع البوظة في المدينة الذي يتجول بدراجته النارية ليضفي بعضاً من الفرح لأطفال المدينة .. وبقيت أشلاءه تنتظر فرصة انتشالها، حيث ينتظر مصيراً مشابهاً من يذهب إلى تلك النقطة الخطرة لاحضارها ..
كان الحادث على بعد بضعة أمتار من الجبهة ..هناك التقينا بشباب معظمهم من المدنيين من أهل المدينة التي اضطرتهم الظروف إلى حمل السلاح للدفاع عن أعراضهم وعن مدينتهم … شباب يقفون بشموخ السنديان ..لا أجد أي كلمة في قواميس اللغة تعبر عن هذا الصمود العجيب الذي يجعلهم يتحدون بهذه الصلابة واحدة من أشرس وأخبث الأنظمة في العالم .. وفي التاريخ ..
لم يلتفتوا إلى ما يمكن أن ينتظرهم .. لم يفكروا حينما دبت النخوة في رؤوسهم للالتحاق بالثورة، ما الذي سيكون عليه مصيرهم…. يعيشون بعيداً عن عوائلهم .. لا يعرفون كيف حال الدهر على ذويهم، ليس عندهم أي دعم من أي نوع .. لا طعام ولا شراب ولا أي شيء ..يقفون على بعد أقل من مائتي متر من آلة القتل والدمار .. ليس معهم إلا إصرارهم الأسطوري على الدفاع عن مدينتهم من الاستباحة.قال أحدهم، ” إذا كنا لا نعجبكم فخذوا عنا هذه المهمة ، أسقطوا بشار الأسد وعصابته، ودعونا نلقي سلاحنا بهدوء ونعود إلى حياتنا الطبيعية وإلى عوائلنا”
نظرت إليه كان يحتذي في رجله شحاطة زنوبا، فقلت له، هل يمكنني أن التقط لك صورة وأنت تدافع عن كرامتنا بهذه العدة المتواضعة إلى حدود الفجيعة؟ وقف مبتسماً ..فرد رفيقه، أنا أيضاً أنتعل صندلاً التقطي لي صورة .. وأضاف .. نحن لا نريد أي دعم، لا طعام ولا شراب ولا أحذية .. أعطونا ذخيرة حتى نتمكن من اسقاط النظام ثم نلقي اسلحتنا ونعود إلى حياتنا الطبيعية لا نستطيع أن نتراجع بأي شكل .. كل طلقة نستعملها نبكي عليها لأننا لا نعرف إذا كنا سنعوضها أم لا ..
ذكر أحد القادة الميدانيين أن حوالي ألفي مدني قضوا نحبهم بآلة قتل النظام منذ بداية الثورة.
حتى العسكريين الذين قابلناهم قالوا .. نريد أن نسقط النظام حتى نلقي أسلحتنا وننعم ببعض الحياة الطبيعية الخالية من القتل والدمار.
ذكر النشطاء هناك أنه لتشويه سمعة الثورة في المدينة قطعت السلطة المجرمة رأس تمثال أبي العلاء المعري لتحاول أن تترك وصمة عار .. لم تطل أحداً إلا أياديها الملطخة بالتاريخ الأسود.
نشطاء الاغاثة في المدينة يعملون ليل نهار لمساعدة من تبقى من أهالي المدينة على البقاء، لديهم عمل منظم وقوائم بالعائلات والأطفال، يعملون جميعاً من خلال المكتب الإغاثي الموحد لمدينة معرة النعمان .. ومنها الهيئة ، الإسلامية لإغاثة معرة النعمان. يساهم بهذه الجهود الإغاثية بعضاً من أهالي المدينة الذين يعيشون في المغترب … يعملون بهدوء، وصمت نبيل .. وفاءً لأبناء بلدتهم المضمخون بالعطاء والتضحية اللانهائية.
زرنا برفقتهم عدداً من العوائل .. واستوقفني هذا الكبرياء النادر الذي يسكنهم .. حتى الأطفال لا يقبلون رغم انعدام أبسط وسائل الحياة أن يأخذوا أي شيء من أحد إلا بعد أن يسمح لهم أهلهم .. التربية السورية الصارمة في آداب التعامل مع الناس، لم تتمكن منها آلة حرب الإبادة التي يقودها ليس فقط المعتوه بشار الأسد بل عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية .. وأهالي هذه المدينة الأبية وغيرها من المدن السورية يقفون بصلابة وصلت حدود الأسطورة.
أهل المدينة يحاولون كل طاقتهم لتشغيل مركز صحي، ومدرسة تكاد تبدأ بالعمل …لديهم مجلس محلي ثوري، يأخذ زمام المبادرة في تنظيم حياة الناس، قالت لي أحد السيدات، “أنا لدي سبعة أولاد .. كلهم للثورة” .. هذه هي الحاضنة الشعبية التي عملت عليها سلطة الغدر ليل نهار لتحول حياة الناس إلى جحيم .. ورغم ذلك بقيت هذه الروح الصلبة للأهالي عصية على الانكسار.
زار المخرج الشاب تامر العوام مدينة معرة النعمان، وسجل فيها شهادات من الأهالي، قبل أن يكمل رحلته التوثيقية التي قادته إلى حتفه في حلب.
غادرت معرة النعمان وتركت فيها قطعة من روحي … غادرت المدينة التي تشترك في واحدة من أشرس مخاضات الحرية في سورية .. لتعيد تكوين ملامح المنطقة .. وتفكيك طلاسم المعادلات الدولية … وهي تسير بسورية وبأهلها … إلى فضاء الكرامة الفسيح ..
مانيا الخطيب