مقتطفات من شهادة الشهيد الصحفي رضا حداد كتبت بخط يده وتم تهريبها من السجن وقد توفي بعد ثمانية أشهر من خروجه من السجن الذي قضي فيه خمسة عشر عاماً بين 1980 و1995 بتهمة مناهضة الثورة يقول في مقطع من مذكراته.
”المرعب والشيء الذي يضغط على أعصابك ويجعل كل حواسك ومخاوفك وهواجسك المتبقية والمترسبة في أعماقك تستيقظ مجدداً، حتى أنك تلهث أحياناً لدرجة الشعور بالاختناق وتشعر بالغيط والقهر عندما تتناهى إلى مسامعنا خاصة في ساعات الليل أصوات التعذيب في غرفة التحقيق، وأصوات العصي والكابلات وهي ترتطم باللحم الآدمي.. تتلوها صرخات وحشية.. شيء ما يتحطم داخلك.. أحيانا كثيرة كنت لا أستطيع احتمال وتيرة الصوت المشحون بالألم والعذاب، فأرتجف وتنهمر دموعي قهراً وذلاً.. مع أن الأمر كان يتم بشكل أسبوعي أكثر من مرة، وكان أكثر ما يشق علي أن تكون المعذبة امرأة.
لا يمكن أن أنسى من ماتوا معنا في السجن قهراً.. أو نتيجة للتعذيب الذي تعرضوا له. الأخ عبد الرزاق أبازيد نتيجة إصابته بالتهاب رئوي حاد إثر تعرضه في فترة التحقيق للضرب الشديد وتعريضه للماء البارد جداً، بأن يوضع في بركة من الماء شبه المثلج ثم يوضع في زنزانة دون أغطية ولعدة أيام، قضى نحبه بعد شهرين أو ثلاثة. الشيخ أبو سليم المصري، قضى نحبه بعد قضائه سبع سنوات في السجن وهو رجل طاعن في السن تجاوز السابعة والستين من العمر. تهمته الوحيدة هو وولداه وأخوه وزوجا ابنتيه وابن أخيه أنهم من عائلة المصري، وهم موقوفون كرهائن حتى يسلم ابن الشيخ المطارد والمطلوب للأجهزة الأمنية نفسه. عبد المجيد أبو شالة مهندس كهرباء، حلبي اعتقل عام 1980 إثر بيان النقابات المهنية، أصيب بسرطان الأمعاء عام 1989 وقضى نحبه. بعد أن تأكدوا من إصابته بالمرض وأن لا أمل من شفائه أفرجوا عنه، لكنه توفي بعد شهرين من خروجه من السجن.
قيادي التنظيم الشعبي الناصري أحمد رجب، والذي توفي إثر نوبة قلبية أصيب بها بسبب التعذيب و بعد نقله بساعات إلى سجن عدرا توفي ليلاً…
رقمي أنا (رضا حداد) كان 61.. وهذا ما علمته بعد عودتي من المشفى إلى فرع التحقيق. قضيت في المستشفى سبعة أيام، اثنان منها في غرفة العناية المشددة وأنا بحالة غياب كامل عن الوعي. والسبب ببساطة طلبوا مني بعد اعتقالي بدقائق وأنا معصب العينين ومغلول اليدين والقدمين، طلب مني هشام بختيار وهو عميد حالياً، كما طلب فيما بعد اللواء علي دوبا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، تزويده بمعلومات لا أملك منها شيئاً. قال: “قل ما نريد وستعود إلى عملك وبيتك، أنت صحفي ومثقف ونحن لا نريد إيذاءك”. رغم شعوري بالخوف ابتسمت في سري، خمسة عناصر مسلحون برشاشات الكلاشنكوف يسوقوني في منتصف الشارع ويخطفوني من الطريق، يعصبون عيناي ويكبلون يدي بالأصفاد.. ويقول لا نريد إصابتك بأي أذى؟. أكدت لهما عدة مرات أني لا أملك معلومات عن الموضوع الذي يحققون فيه.. نعم صديق ومؤيد لخط الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، لكن هذا لا يعني امتلاكي للمعلومات التي تطلب، أجبت السيد علي دوبا.
وبدأت دورة العذاب الجهنمية التي تركت آثارها في أيامي وطيلة حياتي المتبقية.. آثارها جسدية تمثلت بأعطال شبه دائمة وأخرى مؤقتة، وآثار نفسية لن تمحوها السنوات
علقت على سلم حديدي مرتفع، يدي مشدودة إلى عارضة حديدية وجسمي يلوح في الهواء مرتفعاً عن الأرض بقدر متر تقريباً، بعد أن جردت من كافة ملابسي.. كل هذا وعيني معصوبتين بعصابة سوداء مع عدة لكلمات في البطن واسفل الظهر.. لم استطع تحديد الوقت الذي بقيت فيه أتأرجح في الهواء. كل ما أذكره الألم الفظيع في عضلات الإبطين.. ثم تشنج.. وغياب عن الوعي.. صحوني لتبدأ مرحلة أخرى من العذاب.. الضرب بالكابلات على القدمين حتى تورمتا تورماً كاملاً.. وكلا الضابطين يعيدان نفس الأسئلة أثناء عملية الضرب.. وأنا أؤكد أني لا أملك أية معلومات تفيدهم في الموضوع المطروق، وأصبت بالإغماء مرة أخرى.. وجدت نفسي بعده مربوطاً إلى كرسي وركبتي تبرزان إلى الأمام بسبب ثني ساقي وربطهما بطريقة لا اعرف كيف تتم حتى هذه اللحظة، لأني كنت في حالة تشوش عالية.. ولا تزال العصابة على عيني وفخذي في وضعية الفسخ.
تناول العميد هشام بختيارجسماً مفلطحاً وأخذ يضربني بشدة ولؤم على ركبتي ويكيل السباب والشتائم بلغة فاحشة مليئة بالرذيلة: يا كلب، يا حيوان، أنت حشرة، سأمعسك بقدمي.. يا ابن (الشرموطة) سأفعل وأترك بأخواتك وأمك. ويعيد الضرب.. وأنا أكرر الإجابة ذاتها. كان اللواء علي دوبا يلكمني ويركلني بقدميه.. وقال: والله يا كلب، يا ابن الشرموطة إذا ما اعترفت لأحضر زوجتك، ها الشرموطة وأعريها هون وأفعل فيها.. أصبت بدوار شديد وشعرت برغبة شديدة في تقيؤ كل محتوياتي في وجه هذا الوحش. غبت عن الوعي مرة أخرى.. وصحوت لأجد نفسي ممدداً على الأرض.. وقد ربطوا بأصابع يدي ورجلي سلكين كهربائين.. وبدأ التيار يسري في جسدي وأنا ممدد على أرض مبللة بالماء.. العميد بختيار يقف عند رأسي واللواء علي دوبا يجلس علي كرسي. للحظات قليلة استطعت مشاهدته من خلال فرجة تحت عصبة العينين السوداء لأني كنت في وضعية استلقاء كاملة. كان يرتدي بنطالاً سكرياً حريرياً.. يضع رجلاً على رجل وفي فمه سيكار ضخم.. ويحمل في يده كأساً من الويسكي. هذا ما شاهدته حقاً وأنا أرتعد من سريان التيار الكهربائي في جسدي والألم يمزق كل خلية في جسمي وبشكل خاص دماغي. كانوا يقفون للحظات يعيدون السؤال.. ثم يسكبون الماء على جسدي، ويعودون لتمرير التيار الكهربائي“.
تعليق واحد
تنبيه: كبـريـت | Kebreet – مقتطفات من شهادة الشهيد الصحفي رضا حداد كتبت بخط يده وتم تهريبها من السجن « Nizar Rammal