طلب إلي مدير التحرير أن أحمل كاميرتي وأخرج إلى شوارع مدينة الريحانية التركية لأعود له بقصة عائلة سورية تترك أثراً كأثر البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات الأسد!.
الوقت كان منتصف اليوم والجوع والتعب قد أشهرا سيفاهما، فتقاويت وحملت كاميرتي ورميتها على كتفي فبدت كجثة تعفنت عدستها من صور المعاناة وحكايا القهر في المخيمات!.
بحكم عملي في الإغاثة؛ كنت أختزن في ذاكرتي الكثير من القصص السورية التي تعتقت تحت ركام القصف؛ إلا أن معدتي كانت تبعثر بصوتها كل حكاية تحضرني وتضييع علي تفاصيلها! لذا قررت أن أنزل كاميرتي عن كتفي وأملأ جوفي ثم أنطلق إلى أخوتي السوريين فقصصهم لن تمل انتظار عدسات الصحفيين!.
لم أجلس وحيداً في المطعم بل وجدت نفسي شريكاً على طاولة كان وصلها للتو أصدقاء لي في العمل الإغاثي سابقاً! فأخذت مكاني صامتاً بعد تحية وجدت صعوبة في إسماعها لهم…
حضر الطعام؛ فوجدتني كوحش أغتصب حرمة الصحون واحداً بعد آخر وأرميها جثة عارية؛ ثم أخفيت آثار الجريمة على فمي بمنديل، وجلست كسيحاً أراقب أرض المعركة من على كرسيي مستشعراً لذة الشبع…
بعدما هدأ الدم في عروقي أخبرت زميلي عن رغبتي بكتابة قصة مؤثرة لإحدى العوائل السورية، وسألته إن كان يحضره شيء بحكم عمله!…
اصطحبني صديقي بسيارته إلى أن توقفنا على باب في أحد شوارع المدينة؛ فقرعه مرتين ونادى شخصاً اسمه فواز ثم تركني لبقية المشهد!…
يروي التاريخ قصّة وفاء “الليدي رالي”، التي طلبت أن تُعطــى رأس زوجها بعد أن أمر الملك جيمس الأوّل بقطعه بتهمة مُوالاته لملك إسبانيا، فكانت تحمله مُحنّطاً حيث ذهبت، ودام ذلك 29 سنة! وقد سار ابنها على نهجها، وظلّ هو أيضاً محتفظاً بميراث والدته (رأس والده)، حتى وافته المنيّة فدُفن معه!.
لم يكن في ذلك المنزل ميراث كتلك الرأس المقطوعة! إنما جراح وإعاقة متواترة وجماعية لعائلة بكاملها أورثتها الأم لطفلها أيضاً كي يحملها بقية حياته فكان في بذله وفياً كابن الليدي رالي!…
كانت العائلة بأفرادها الثمانية أكفاء (عميان) بمن فيهم الأب، إلا محمد الابن الخامس ترك الله النور في عينيه! فكان شقاؤه لا يخف وطأة عن إخوته وأبيه؛ إذ جعل على عائقه الوفاء لهؤلاء الأكفاء وتولي ميراث والدته التي حملتهم دهراً، ثم تركتهم بعدما تمزقت جثتها بإحدى البراميل المتفجرة التي هدمت بيتهم في ريف محافظة إدلب.
محمد يحمل ميراث والدته منذ الشهر التاسع العام الماضي!… يبيع كعكاً ودخاناً في أسواق المدينة؛ فيجني رزقه بلسان عربي في بلد أعجمي، يخرج من الصباح الباكر هائماً على وجهه، تبرق عيناه ببراءة الطفولة وهما من جنتا على حياته ومستقبله؛ فلا مدرسة ولا أصدقاء ولا حي يجمعه مع نظرائه، ينفق أيامه في هم لا يعرف حدوده ولا كيف تورط فيه…
محمد ابن إدلب تخاف أرصفة المدينة أن تؤذي قدميه في حذائه المهترئ، يمشي غني بهمه، ثروته الاستعفاف عن طلب مساعدة الناس، يخفي تحت كل قطعة كعك حكاية براءة جرمها النظام بتهمة الحرية، يصدح بصوته الطفولي كلمة “كعك… كعك…” عله يحرك شهوة الجوع في بطون السامعين؛ ثم يصمت تعباً أو إدراكاً منه أن لغته غير مفهومة!.
محمد في سنته العاشرة ويذكر جيداً كيف خطف الموت والدته؛ فيقول جاءت الطائرة من فوق منزلنا وفجأة سمعنا صوتاً قوياً ولم نعد نرى بعدها شيئاً من كثرة الغبار، فخرجت بعد برهة تائهاً لا أعرف حينها كيف وصلت لساحة المنزل الخارجية؛ فوجدت أمي على الأرض والدم يخرج من أنفها ورأسها! فناديت والدي ليأتي ويساعدها لكنه لم يستطع بسبب العمى في عينيه، فطلبت مساعدة الجيران فأتى أحد الشباب من الحي، ولم أعرف بعدها لماذا ترك والدتي ولم يساعدها وراح يهدئ والدي الذي بدأ بالبكاء!.
يأتي المساء على محمد في ساحة البلدية في مدينة الريحانية التركية؛ فيلملم غطاء سلته على ما تبقى لديه من بضاعة ويعود أدراجه إلى المنزل؛ ليضع في فم أخوته ما تعب به جناحاه حتى جناه، تاركاً لنفسه بقايا تعب يتلحفه في نوم قد تبدو أحلامه حول ما سيحرمه محمد من طفولة ابتداءً من صباح اليوم التالي.
محمد كناص