في ريف محافظة إدلب وعلى طرف زاروب تجمعت فيه مياه الأمطار، وفي ظلمة حدودها جدران أربعة ورطوبة السقف تسمرت ثلاث فتيات على فراش دون حراك، فنور عيونهن الذي انطفأ مع بدء خلقهن ضيق عليهن دنيا قد رحبت؛ فغدت سماؤهن وأرضهن لحاف وفراش في أمتار باردة، فلا حراك لهن إلا ضمن جغرافية تمتد من باب منزلهن الحديدي الذي يحكم إغلاقه على قصصهن ومأساتهن إلى باب غرفتهن الخشبي المهترئ الذي يبوح بما كتمه الأول..
ثلاث فتيات يجمعهن وحدة الرحم ويقاسمن الظلمة عتمتها… لا جليس ولا أنيس لهن سوى أحاديثهن المستهلكة المكرورة… ثلاثة أطياف تتحسس عبور الصمت؛ فلا يعرفن وقتاً ولا يشعرن بتمام دوران الشمس حول الأرض… ثلاث فتيات تكورت أجسادهن في حضن القهر…
الكاميرا تمادت على حرمة حزنهن؛ فاستنفرن وخفن من تسرب بعض وثائق محنتهن؛ فالتحفت إحداهن بحجابها سألت أباها عن الزائر! وأخفت أختها بكفيها وجهاً بريئاً ما رأت عيناه ضوءاً قط! والشقيقة الثالثة دافعت عن قلعة حزنها بدموع لم تستطع لملمتها! بل تكسر صوت بكائها في صدرها وكأنها توجست خيفة أن تعاقبها مصيبتها على خيانتها للسر الذي زرعته في عيناها…
في تلك الغرفة تصبرت أنفاس الفتيات للحظات! فعرف والدهن بخوفهن؛ فأعاد الحياة والطمأنينة لهن بقوله أن الزائر صحفي وليس الجيش النظامي… فجزيرة حزنهن المعزولة عن الحياة لم تشفع لهن عند مرتزقة النظام ولم تعفيهن من إهانات وشتائم كضريبة لحرية لا يعرفن حدودها ولم يخرجن لأجلها…
في شارع كثر فيه اليتامى من أبناء الشهداء جراء قصف قوات النظام للبلدة؛ ضاعت معاناة تلك الفتيات الناعمات!… في ذلك الشارع الذي تزاحمت فيه قصص الموت والقتل انفردت وحيدة حكايتهن دون أن يقرأ أحد كلمة من سطورها!… فلا مساعدة وصلتهن ولا مساعد دق باب زقاقهن من ساعة ارتمى أول شهيد في حيهن!…
من لعتمة تلك الفتيات!… من يدخل لهن بصيص نور إلى فؤادهن ولو بكلمة واحدة!… من يؤنس وحشتهن!… من يدخل جزيرة حزنهن المحاطة بالظلمة وصوت المدافع!… من يضم مأساتهن إلى حكايات اليتم حولهن!… من يتذكرهن وأطفال الشهيد!…
كم أنت غالية أيتها الحرية!… كم أنت قاسية أيتها الثورة!… لم تتركي باباً أو منزلاً في هذا الوطن إلا وأهديته حكاية حزن؛ حتى من كانت أطراف ظلمته تقع عند حدود الشمس…
رابط التصوير:
المدون والصحفي محمد كناص