نبض الروح
ذاكرة لشهيد.. إنسان
إلى روح الشهيد ماوكلي.. الصديق الذي لا نعرف
شام داود | جريدة سوريتنا
” إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير. “(يو12: 24)
عود على بدء
حرية.. هكذا بدأت، قبلها كانت الأسماء المضحكة تنتشر على صفحات الشبكة العنكبوتية هنا وهناك. وأنا التي تكره الغموض لم أفهم تلك الحاسة التي تجعلك تدرك أن وراء الصورة الباردة والاسم الذي لم يرتبط بهوية.. قلب.
أين نحن؟ هذا أول سؤال لم يأخذ حيزاً كبيرا من الزمن للإجابة. لا يمكن أن تكون سورياً ولا تعلم. فإن السوريون قد استفاقوا من سبات. أحقا في بلدي ثورة.
اكتشاف سوريا
أضفت على عجل عبر شبكة غير مرئية من الأصدقاء إلى مجموعة عمل نشأت من قلب الحدث. الهدف. لا نعلم بعد ؟ سنحتاج إلى وقت لندرك متطلبات المرحلة وطاقة الشباب الكامنة المنتظرة لحظة الولادة.
إعلام؟ انترنت؟ صور؟ توعية؟ فيديوهات؟ اذكر لحظة الذهول من ذكاء لماح لما ينبغي وما لا ينبغي. التكاتف الغير مسبوق والرغبة بالعمل الجماعي والتعثر بكل بخطوة، الخناقات المحببة واللغة العربية التي نعيد ارتشافها ببساطة تخلق سوريا
التقيته صدفة؟ كان احد السبل أن نكون شبكة. محبوكة بدقة وبكثير من السرية عبر مدن وضيع ومناطق لا نعرف ولربما لم نزرها في حياتنا. كانت حماة أصعب معادلة على الإطلاق. حماة التي رأت الدم بعينيها وعاشت العنف.
هو لم يره على الأغلب سمع عنه في قصص العمات والخالات أو الجارة التي فقدت وحيدها. ربما حدثه زميل الصف أن وحشاً قدم مرة إلى مدرسة أخيه الأكبر وأطلق النار على بضع أطفال لم يجدوا الوقت لإزاحة البصر عن باسم الذي يمسك يد رباب ليقطع بها الشارع إلى العدم..
كنا فخورين بعملنا. على بساطته. بين هم الاعتقال والسرية والمعلومات التي تنتقل هنا وهناك. كنا نضحك ونغضب من تأخر الإعلام في نقل ما يحصل هناك. في مدننا السورية. بعض من غرور لأن هؤلاء الشباب ومنهم ذاك.. ينقل لنا الصورة من داخل يغلي بأمل الحرية..
(مين عنا بحماة؟) أحدهم يسأل. تنهال التاغات والأسئلة. نصيغ الأخبار على عجل لنقلها من صفحة إلى أخرى. كي يرى العالم الولادة.
سوريا الأم الأولى من رغبت أن تري وليدها الشمس ويراه العالم أجمع..
مضحك وشغيل
اسمه مشتق من مسلسل للأطفال. مضحك للغاية وأخرق، يعيد الذاكرة إلى الإنسان الأول. يطلق النكتة تلو الأخرى. يجمع الصور المميزة بعناية، ويحولها إلى قصة قصيرة. سرعان ما علمت أنه يحب صناعة أفلام تتحدث عن الثورة بعيون المتظاهرين. لم يكن بين قائمة أصدقائي فلا حاجة للتواصل إلا عبر ذاك الفراغ السري. نقرر أن الشبكة ينبغي أن تكون واضحة ولها هوية ما. سورية بالطبع.
هو يبتدع لوغو. يرسمه ينبغي له أن يكون معروفاً من أطراف الشبكة. غامضا بما يكفي كي لا يدرك الآخر المختلف لون من وراءه..
الشعب يريد إسقاط النظام. سقطت حماة من معادلة الخوف. يحدثنا على عجل عن قلبه الذي يخرج عالياً في مليونية حماة..
يصور. يحرك. يكتب ويرسم. يضع الفيديو على عجل. شيل من هون. ظبط هي.. شو رأيكن بهل الموسيقى. هي أوضح. لا لا هي ممكن تنفهم غلط. في حادثة صارت شو رأيك نضيفها..
قدم الماء للشرطة في ساحة العاصي. علمت مؤخرا.. السلمية المستحيلة في سوريا كان منها..
حوار السوريين
نعمل وبنفس الوقت نحاول أن نفتح الأبواب المغلقة لكل من معنا.. نتناقش بهمس. بصوت عال أحيانا. بأحكام مسبقة. بحكمو معلبة أو متجددة.
بعضهم يقول: (هلأ وقت خناقاتكن). لا بأس فالحوار صحي أيضا. أرقب كيف تتطور الأحاديث. كيف يحاول المنفعلون السيطرة على أنفسهم. والمتبلدون الخروج من قوالبهن. والمتفزلكون صياغة اللغة بأسهل من سابقها.
هو أيضا هنا معنا. يكفي لاسمه ولمزحة ما متعلقة بعصر ما قبل البدائية أن تضحك الكثيرين وتجعل قلوبنا المنفعلة والغاضبة من نقاش سياسي أو طائفي تضحك للحظات. أود لو استطيع قراءة كل ما كتبت. عن حماة وعن كثيرين. ليس مثالياً أيضا. كلنا نفقد أعصابنا تحت الضغط. بعد لحظات نعتذر بود. لم أقصد. أعيد القراءة.
لا أذكر سوى حكمة وتمسك بموقف ثابت لا يحيد عنه. أردناها سلمية. وستبقى..
قلق وترقب
عندما يغيب أحدنا. نقلق؟ أحيانا على سلامة من بقي أكثر من الغائب. الهم الأول إزالة صلاتنا به وما جرى من أحاديث. كم من أحاديث مبتورة وعمل غيب بسبب القلق؟
في عجلة المظاهرات وتسارعها. كان يختفي أياما وليال. بعد أن يدخل على عجل ليقول أنا طالع بكرا عم خبركن لتعرفوا إذا صرلي شي. بعد أيام لا هواتف لا انترنت. ينجح بتطمين أحدهم أنه بخير لكن لا وسائل تواصل وأنه يعمل أيضا وسيعود.
كثرة الاعتقال واتساع رقعة الانتفاضة لم تترك مكاناً للقلق. فالقتل يومي والاعتقال لحظي والشباب الثائر لا يتوقف. اعلم من بعضهم أنه لا يزال يعمل بصمت كالبدايات.
الاختلاف والعنف. فرق بعضنا كما الكثيرين منا. هو لا يزال هنا. بعض الضرورات والعمل أراه أحيانا عبر مزحة تضحكني أو مشروعاً آخر يولد. هو هنا اذاً.
اكتب على عجل: لك وينك يا زلمة ماعم نشوفك شتقنا للون الأصفر.
النسيان في زمن الثورات خطيئة.
اعتقال
لم أعد أراه. أسأل عنه مصادفة أعلم أن بروفايله مغلق. لم نقلق كثيراً فقد اعتدنا غيابه. لم ينضم إلى الجيش الحر فهذا ليس مرماه هو يعمل على فيديو جديد على الأغلب. خليك بالبيت. أولى صرخات العصيان المدني. تاخذنا دعوات الإضراب من أنفسنا نقرر أنه حان الوقت لنرفض العنف. وبين ال”لا” وصوت الرصاص. ننساه..
عرفتو: اليوم خبروني اعتقلوا فلان.. ياجماعة دريتو.. لااااااا. رفض عاجز. بعد ثمانية عشر شهر من الثورة واعتقالات وخروج واستمرار اعتقال أصدقاءنا، يهيأ لنا أن من نجا حتى الآن من الاعتقال منيع عنهم.
وين؟ بالجوية؟ تنهال اللعنات. الخوف والترقب. يومها عرفت اسمه كاملاً. أرسل لبعض من اعرف.
لا يمكن حتى المطالبة به؟ ليش؟ هل يعقل؟ إنه منا.. أقل شي خلونا نعمل شي يا جماعة.
لم أجادل كثيراً فقد تكسرت إرادتنا عبر الأشهر أمام دموع الأهالي التي لا تريد أن يعاني ابنها منهم إذا علم نشاطه.. هؤلاء الوحوش. وكأنهم يحتاجون لسبب. فالتهمة الجاهزة اليوم أن تكون سورياً كافية لتغييبك في القاع.
صديقي السلمي اعتقل. كل كم يوم بنسأل عنه؟ لسا ما في أخبار؟. يمكن حولوه عالشام..
الحرية لمعتقلينا الحرية لسوريا. يا كلاب لك هدول ولاد البلد..
أصوات وراء صرير الحديد
المفارقة أننا نحجب صورة الصديق عنا عندما نسمع قصص المعتقلات. التقيت بالكثيرين ممن خرجوا من المعتقل. أغلبهم يتحدث وهو ضاحك عن مغامرات ” السجن” صوت التعذيب اللامنتهي. صرخات الضعف. صمود الكثيرين. دماؤهم وانهياراتهم. رائحة العفن التي يرسمونها بطلاقة. كلهم يتحدث منهم بطلاقة ومنهم بتعثر.
استغرب كيف لم يخطر لي ذاك الصديق المغيب. له اسم وهمي مضحك. ربما ظننته منيعا ً أو وهماً أيضاً..
يضحكون وهم يقصون ما حصل لهم. شيء ما يقنعني أن قصتهم ليست مضحكة مع صوت الضحك المنتشر. مرارة تكاد لا ترى. هناك في زاوية العين الأبعد. ألحظها..
يكاد قلبك يموت سريرياً من ضحكهم. وأنانيتك الصارخة أنك حي ولم تتألم للحظة من ذل غير مستحق..
هو ما يزال مغيباً. اللعنة على العجز. سيخرج ككل الأصدقاء وسيروي لنا قصصا أيضاً وسيرسم أفلاماً عن الاعتقال. مؤكد
وين أيام الخناقات.. صايرين كتير منشبه بعض.
التغيير يتطلب الكثير من الاختلاف وإيمان أنقى وعمل أفضل.
صرخة
مات تحت التعذيب.
لا تعليق. له عينان رأيتهما لأول مرة في صورة. أتفادى نظرة الذعر التي رسمها موته المرئي. وأرسم بدلاً عنها ابتسامة شهيد حلقت لمرأى غياث وحمزة وهاجر والقاشوش.
أحسده لأنه غنى مع القاشوش سوريا بدها حرية في ساحة العاصي. لقاء مؤجل ربما إلى العدم..
اكتشاف سوريا مرة أخرى
تنطلق الحناجر لتقول ما كانه ذاك الصديق. انتماءه. جنسيته. توجهه. أفكاره العامة والخاصة منها، أتذكر بمرارة وحزن شديدين..
هو كان سورياً. كان أقلنا تحدثاً وجدلاً عن ماهيته وتوجهاته.
نحن من الثورة إلى الثورة نعود..
“ قولو لإمو تفرح وتتهنى ترش الوسايد بالعطر والحنة
يا داري هنا وبنهاية غنى والفرح النا وبعرسن تتهنى.. “
هذا ليس بمقال.. هو تداعيات وخواطر لتسعة عشر شهراً. خربشتها على عجل بعد موت غير متوقع..
سوريا لحظة الحزن. سوريا لحظة الأمل.
كم من قبر سنزور بعد؟ إذا بعدنا طيبين..
سأضع سنبلة قمح على جبهة الحجر البارد وأصلي.. لقدس غير مرئية ووطن..
*يا أيّها المتفرّجون، تناثروا في الصمت و ابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوه فيكم حنطة ويدين عاريتينوابتعدوا قليلاً عنه كي يتلو وصيّته على الموتى إذا ماتوا و كي يرمي ملامحه على الأحياء أن عاشوا! (م. درويش | أحمد الزعتر)
سوريتنا | العدد التاسع والخمسون | 4 تشرين الثاني 2012
لتصفح العدد على موقع ايشيو