عبدالرحمن الخليل
ان مادة “الشريعة كمصدر للتشريع ” في دساتير الدول العربية تكاد لا تختلف في التطبيق عن تطبيق حزب البعث لشعاراته في الوحدة والحرية والإشتراكية ,بمعنى أن الدساتير والقوانين في البلاد العربية عامة مستوردة (او مفروضة ) منذ عهد الاستعمار الغربي و بخاصة القانون الفرنسي المطبق في بلاد الشام ومصر وليبيا وذلك في كل المجالات القانونية التجارية العقارية المدنية والجنائية خلا ما تبقى من قوانين الأحوال الشخصية التي تتبع للشريعة من أثر تنظيم مجلة الاحكام العدلية في نهاية فترة الدولة العثمانية وهنا يكمن دور القانونيين والفقهاء في صياغة أحكام الشريعة ضمن نصوص وبنود قانونية منظمة تسهل العمل القانوني
– يجب التفريق بين الشريعة كأحكام ثابتة قطعية الثبوت والدلالة من الكتاب والسنة تستمد قدسيتها من مصدرها ومشرعها وهو الله عز وجل كإيمان ثابت عقيدي عند المسلمين وبين الفقه كجهد بشري عقلي في تفسير واستنباط الأحكام و الاجتهاد في ما سكت الشرع عنه وما تشابه من أدلة النصوص القطعية الثبوت حمالة الأوجه والمعاني وهو المجال الأكبر من الفقه والاجتهاد العلمي والعملي في ظل مقاصد الشريعة وباستخدام الوسائل الفقهية المتعددة كالمصالح المرسلة والعرف والاستحسان وسد االذرائع طبقا لأحوال المجتمع وما يعرض من قضايا مستجدة على كل الأصعدة و ما اتفق عليه الفقهاء من تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان
وهو مناط التجديد وتاريخ المسلمين يبرهن تلك المرونة في التطبيق على مدى 13 قرنا في مناطق شاسعة من البسيطة
-الحدود والعقوبات الثابتة القطعية لها ضوابط صارمة في التنفيذ والتحقق كمثل حد الزنى الذي من تجعل من تطبيقه صعب عمليا الا في حالات شديدة الخصوصية عندما يجتمع أربعة شهود عدول و رأي العين و غير ذلك من الحدود وإنما الغاية الأساسية من العقوبة هي ردع من تسول به نفسه ارتكاب هذه الجريمة أو تلك لا التعطش لسفك الدم ورب عقوبة واحدة ردعت ألف جريمة خير من عقوبة لا تردع ولا تنفع
-اختلاف و تعدد الآراء والمدارس الفقهية لا ينتج فوضى بل هو سعة ورحمة لمجموع الأمة فيما يرفع الحرج والمشقة فيما لو حصر في رأي مذهبي واحد ويراعي الأوضاع والخصوصيات في كل حالة وليس ذلك ببعيد عن القوانين الوضعية في تعدد المواد والبنود المتعلقة بمسألة قانونية واحدة عدا عن تعدد المدارس القانونية الفرنسية والألمانية وغيرها وضبط هذا التنوع يكون تبعا لمقتضيات المصلحة العامة و تحقيق عناصر السيادة والاستقلال الوطني في مواجهة التبعية
– إن الشريعة عدل كلها و رحمة كلها كما يقول ابن القيم ومن هنا ينبغي الأخذ باعتبار أن تحوز الشريعة على قبول المجموع بإرادته الحرة من دون جبر أو اكراه فالنفس البشرية بطبيعتها محبة للحرية كارهة للظلم فلا يبنغي أن تفرض على المجتمع من علِ من نخبة متحكمة دون رضاه بل يكون هو الرافعة والضاغط على الدولة ومؤسساتها الحالية المعلمنة بطبيعتها فالشريعة رحمة ولا تطبق الا بالرحمة والقبول والغاية لا تبرر الوسيلة مهما علت وسمت فنحن مأمورون بصوابية كلا من الغاية والوسيلة والعبرة الأكبر في تطبيقها هو العدل فانتقائية التطبيق ظلم محض “لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”ولو كان القانون عادلا بذاته فيمتنع نفور الناس
بمقتضى رد الفعل العكسي من فرض الشريعة السمحاءبالقوة ونكف على أن مروجين فاشلين لبضاعة ناجحة فالدعوة المجتمعية على مستوى القاعدة المجتمعية بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة من جهة وضمان وجود نخبة حاكمة لا تحارب الدين وتضع العوائق أمام تطبيق الشريعة على أقل تقدير كما عهدنا في دولة الاستقلال عن الاستعمار “المباشر ” كما أن التركيز على الأولويات وسنة التدرج خير وسيلة لاحكام الشريعة في القلوب والعقول أما الصراعات الطاحنة على مسائل كتحديد سن الزواج وختان الإناث مثلا اكثر من مسألة القوانين الجنائية والاقتصادية والدستورية وموقف الشريعة منها يجعل تطبيق الشريعة سطحيا هشاً
-إن تعدد النظم القانونية لا يعني تعدد الولاءات أو القضاء على روح المواطنة فيما يزعم البعض فالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك تنوعا قانونيا لافتا في كل ولاياتها وفي شتى المناحي القانونية حتى ضمن قانون الانتخاب نفسه حيث أن 3 ولايات أمريكية (ماين -نيوهامشير -ايوا) تختار النسبية في اختيار المندوبين مخالفة جميع الولايات الأخرى وغير ذلك الأمثلة كالاجهاض و وزاج المثليين و سن شرب الكحول وحتى سماحية تناول الممنوعات !!!! إن تنوع قوانين الأحوال الشخصية ظاهرة صحية بحد ذاته ويراعي التنوع الثقافي والديني لمجتمعاتنا التعددية فهي ليست كتلة مصمتة صماء نقية الدين والقومية كما يريد أن يراها دعاة توحيد القانون في إطار قانون “مدني ”
فالمواطنة تتحقق في إطاري ترسيخ العدالة وسيادة القانون دون تمييز او تحيز في التطبيق أكان قانونا موحدا ام قوانين متعددة .
-اشكالية المصطلح (او بالأحرى التلاعب فيه ) واشكالية المرجعية متلازمتان إلى حد بعيد من حيث المقابلة بين “المدني ” و”الديني ” فلفظة المدنية بالعربية تقابل البداوة والهمجية لا الدين في تضمين لمعاني التخلف والرجعية والانحطاط لما هو متعلق بالدين وبالإسلام كمرجعية قيمية أخلاقية على وجه الخصوص ومن جهة أخرى إبهام المصدر الغربي -الفرنسي الألماني- بمرجعيته القيمية لما يسمى قانونا “مدنيا ” فالمدنية ومعاني التحضر تقتصر عن ما صدر عن الغرب وحده فهو مركز الكون واليه منتهى العقل والمعرفة وتراثنا التشريعي هو عبارة عن “تراث ” أي تناقل لا إعمال للعقل والفكر فيه ولا اجتهاد بينما التشريع الغربي ليس تراثا فهو عقل محض لا نقل فيه وليس وليد بيئته رغم تاريخيته الواضحة (واستناد القوانين الغربية بمجملها على القانون الطبيعي الروماني )
و كأن نصوص القانون الوضعي جامعة مانعة شاملة لكل الظروف والاحوال في كل مكان رغم انها وليدة تجربتها الخاصة في المكان والزمان والقيم وهي -كغيرها من النصوص- لا يمكن عمليا أن تشمل كل ما يستجد من أحداث وظروف واشكاليات بحكم التطور المستمر والتغير في طبيعة العلاقات والأحوال بين البشر ..فالمسألة باختصار هي تسلخ وعقد نقص حضاري أمام الغرب يعبر عنه بلعبة المفاهيم والمصطلحات
-مسألة الاستتباع الثقافي سوف تستدرج بالضرورة الأسقاط والتقليد كوسيلة للحكم على المفاهيم والقضايا بشكل عام ومنها مسألة الدين كتعريف فالعلمانية تعرف الدين وتقصره على مجرد القيم والأخلاق الحميدة مع بعض الشعائر الفلكلورية وهو ينبطق الى حد بعيد على المسيحية وهو صحيح لكون المسيحية ليست دينا بحد ذاتها وانما تكملة خلقية تهذيبية للشريعة الموسوية لليهود”(متى 15: 28 )لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ” وأيضا “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (متى 5: 17-18).ولكن التحريف بدأ منذ الانسلاخ البولسي عن الشريعة الموسوية في رسائله ” رومية 3:27[فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ] وغلاطية 3:23-25[23] Gal 3:23 وَلَكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ[24]إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ[25]وَلَكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ, وكما في غلاطية 2:16[إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا….وهكذا اتجهت المسيحية من دعوة مكملة لليهودية الى ديانة مستقلة بحد ذاتها على يد بولس اتخذت من القوانين الهيلينية مرجعية تشريعية بديلة رغم وثينتها كما يقول الاب بولس الفغالي في كتابه “محطات كتابية” الفصل الرابع “الشريعة وشريعة المسيح في غلاطية” ( في 4: 1-7، بيّن بولس كيف يصبح المؤمن وارثًا (كليرونوموس، 3: 29؛ 4: 17)، وما الذي يحمله الميراث معه. استعان بمثل أخذه من الحقّ الهلّينيّ فبيّن التواصل والانقطاع بين فترتين: فترة فيها يكون الوارثُ بعدُ ولدًا. وفترة ينعم بخيرات يتضمّنها وعد الآب. منذ البداية أعطي لنا كلُّ شيء)
وهذا التعريف قد أسقطه دعاة العلمنة على الدين الاسلامي بدعوى اعادة اعتباره ك”دين” بحسب مفهومهم المستنبط من المسيحية واسقاط اعتبار الشريعة جزءا لا يتجزأ منه ومناط التطبيق العملي لقيم وأخلاق هذا الدين الحنيف وجعلها حية فاعلة تسري في المجتمع ولا تكون حبيسة الرفوف والسطور .