سعاد يوسف
————————
ألم تصادف أياً منهم يوماً؟
ألم تكن تقود سيارتك مسرعاً في وقت متأخر ذات ليلة، وإذ بوجه مبتسم يتراءى لك من خلف الزجاج، وجه لم تره يوماً لكنك تحس بأنك تعرفه منذ الأزل، فتبتسم له كالأبله لثوانٍ ثم تعود إلى واقعك وتكمل قيادة السيارة؟… وهو، يذهب بحال سبيله كي يبتسم لشخص غيرك…
ألم تكن جالساً أمام شاشة الحاسب تتصفح الأخبار في واحد من تلك الصباحات المشرقة، فتسمع صوتاً يهمس في أذنك “أنا هنا… في هذه الصورة، وتلك… هذه قطرات دمي… هذه أمي تبكي أمام جثماني… وهؤلاء أخوتي وأهلي وأصدقائي يخرجون في تشييعي… ماذا تفعل أنت هاهنا؟ لماذا تستمر في الجلوس، وفقط الجلوس؟”… تلتفت حولك بحثاً عن مصدر الصوت، فلا تجد إلا الفراغ، وصمتاً قاسياً، وتكمل تصفحك للأخبار…
ألم تجلس يوماً في المقهى لتحتسي القهوة وتقرأ مجلة ما، أو تناقش مع أصدقائك أخبار الثورة، وما آلت إليه أوضاع البلد، وتتسابقون في إلقاء اللوم على هذه الجهة أو تلك، وهذا الشخص أو ذاك المسؤول، وفي وسط الصخب والضجيج والنقاشات يصطدم بك من الخلف شخص ما، تلتفت لترى اللوحة على الحائط ورائك تهتز يميناً ويساراً، وعدا ذلك، لا صوت إلا صوت دقات قلبك…
لا تخف… إنها أرواحهم…
أرواح شهداء حمص، وإدلب، وحماه، ودرعا، ودمشق، وحلب…
شهداء دوما، وحرستا، وتلبيسة، والرستن، والبياضة، والصنمين، ونوى، وجاسم…
هي تزروني كل يوم منذ سقط أول شهيد في الثورة… ألم تزرك من قبل؟
في المرة الأولى خفت قليلاً رغم إحساسي الغريب بالارتياح في وجودها، لكنها عندما أسرّت لي بأنها في انتظار دورها إلى الجنة، وبأنها كثيراً ما تشعر بالملل فتحس بالحاجة إلى أن تطوف بين البشر لترى ماذا حصل بعد رحيلها، منذ عرفت كل ذلك لم أعد أخاف منها بل على العكس، صرت أترقب حضورها، وأحياناً عندما لا تأتي أوهم نفسي بأنها موجودة وأتابع حديثي معها، فقد اعتدت وجودها، وصارت رفيقتي في ليالٍ خاوية كصحراء لا نهاية لها، وصباحات حزينة ممطرة…
البارحة جاؤوا… كانوا أطفالاً صغاراً… جلبت كل ما لدي في المنزل من ألعاب ووضعتها أمامهم كي لا يحسوا بالملل. بعضهم أحس بالسعادة وبدأ باللعب، البعض الآخر لم يعر الألعاب أي اهتمام وفضل الطواف في أرجاء المنزل… فقط تلك الفتاة الصغيرة، الصغيرة جداً، انزوت وحيدة في الزاوية دون أن تنظر إلى أي منهم… اقتربت منها… “ما اسمك؟”… “لا اسم لدي، فأهلي لم يمهلهم النظام يوماً آخر كي يعطوني اسماً، والقذيفة أصابت منزلنا وتوفيت وأنا عمري لم يتجاوز بضعة أيام”… “ولم لا تلعبين مع الأطفال الآخرين؟ ألم تعجبك الألعاب؟”… “لا أعرف كيف ألعب”… أمسكت يدها… خرجنا إلى الشرفة وشاهدنا حبات المطر وهي تتساقط، بعضها يلمع تحت ضوء مصابيح الإنارة التي لم تطفئها البلدية اليوم على غير العادة، وبعضها يسقط على الأرض دون أن نراه… حاصرتني أصوات أطفال “كرم الزيتون” وهم يلعبون داخل غرفتي… دماؤهم زكية زكية زكية، ويد هذه الطفلة تشد على يدي بقوة وهي تهمس لي: “لا تصالحوا… لا تصالحوا”… نظرت إليها فاختفت، دخلت الغرفة فرأيت الألعاب كما تركتها، في زاوية الغرفة، ترقد بسلام وطمأنينة…
اليوم، كانوا كثراً…
اليوم، البرد قارس في الخارج والمطر غزير… لم أغلق الباب جيداً فلربما سيدخل بعضهم بحثاً عن الدفء…
اليوم، سأخلد للنوم باكراً… أسماؤهم تلاحقني، سأفسح لهم مجالاً كي يستلقوا إلى جانبي إن أحسوا بالتعب، وغداً سيكون لهم صباح مشرق كوجوههم، نقي كحبة ندى تلمع وتتدحرج على وريقة شجر خضراء، خضراء كأرواحهم…