تأملنا كثيراً أن يخرج من بين هذا الركام جسماً سياسياً سورياً قادراً على تحويل انتصارات الثورة السورية العظيمة إلى انتصارات سياسية في المحافل الدولية، وأن يعمل الجميع كخلية أزمة لا تترك أي اجتماع ي أي مكان يخص تنظيف الجذور العفنة لعصابة الحكم في سورية التي زرعتها بعناية فائقة على مدر عشرات السنين، وبحرفية عالية استطاعت أن تدير الكثير من المعارك الإعلامية وخصوصاً تلك التي تؤثر في شرائح اجتماعية معينة سواء في داخل سورية أو خارجها.
استطاعت بمساعدة حلفائها العلنيين وغير العلنيين أن تسوق مقولة أن المتطرفين الإسلاميين هم من يقودون الثورة، وهي التي تملك أجهزة مخابرات تفرخ وتصنع هذه المجموعات وتنثرها في أرجاء سورية لاختراق الثوار والأهالي وكل شيء.
لم نتمكن حتى الآن من توليد جسم سياسي متين للثورة، يعرف كيف يوظف كل الطاقات والاكاديميين وأصحاب الخبرات في معركتنا الشرسة من أجل نيل حريتنا، بل الكارثة الكبرى هي إعطاء أسوأ صورة ممكنة للداخل والخارج السوري عن الكيانات السورية السياسية التي تصدرت تمثيل الثورة، حتى أن قيمتها حتى الآن انحدرت إلى أدنى مستوى ممكن وهي تتصارع على القشور في أسوأ حمام دم شهدته الانسانية.
طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار أن الألاعيب السياسية الدولية استنزفت هي الأخرى هذه الكيانات وجعلتها رهينة الدعم الشحيح المخجل الذي تتلقاه، فمثلاً لازلت من الذين يتساءلون بسذاجة عن أنه لماذا لم يقم “المجتمع الدولي” باغلاق كل تمثيل ممكن للــ “النظام السوري” ابتداءً من الأمم المتحدة وصولاً إلى السفارات في الأردن ولبنان التي لا أعرف لماذا حتى الآن لاتزال موجودة؟ لماذا لم يخلق حل لوثائق السوريين في الخارج وحشرهم في أضيق الزوايا من أجل تجديد جوازات سفرهم؟ بل وأكثر من ذلك، أعطى للعصابة الحاكمة إمكانية أن تفرض عليهم بدل الجيش في الخارج من أجل تجديد جوازات سفرهم؟ لماذا حتى الآن لم يفرج عن الأموال الخاصة بلصوص السلطة ابتداءً بالنذل رفعت الأسد وصولاً إلى باقي هذه الشبكة الإجرامية؟ لماذا لم يتعاملوا معنا ببعض الكرامة وهم يعلمون أن هذه أموالنا المسروقة ولديهم ألف مليون طريقة يعيدوها إلينا بشكل يليق بحجم الفجيعة ويعلمون أنهم بهذه الاموال – أموالنا يمكننا إغراق سورية كلها بالغذاء والدواء؟
لماذا قبل الاغراق في تسويق الخطاب الطائفي المذهبي الذي يبغضه كل سوري عاش على هذه الأرض الطيبة -إلا فئة ضيقة تربت في مصانع تفريخ الإجرام لاستعمالها من أجل محاولة سحق هذه الثورة المرتقبة منذ زمن بعيد- وذلك باستخذام كل الماكينة الإعلامية في مشارق الأرض ومغاربها، لماذا قبل هذا الإغراق غير البريء لا يتحدون عن “الشرعة الدولية” التي تم نسفها من أساسها، بالسكوت المدوي عن جرائم تم تصنيفها على أنها جرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم ضد الانساية، تدمير المدن، تدمير الشعب، تشريده، سحق آثاره، وإصابته في صميم كرامته وكبريائه… وبدلاً من هذا كله لا نرى غير تعمد تسويق الأمور على أنها اقتتال مذهبي للتغطية على كل ما لايريدون فعله بحكم أننا أحد شعوب هذه الأرض التي تتعرض للإبادة.
في هذا المشهد المأساوي، يكاد اليأس يمحق أي حلم جميل، لكن اليأس خيانة، تنصل من المسؤولية، تفريط مرعب بدماء من رحلوا من أجل هذا الحلم …
ما أريد قوله، أن ثمة جيل سوري جديد يتشكل من عمق هذه المأساة، بعد الفشل الذريع الذي عشناه على مدار سنتين وأكثر في توظيف طاقاتنا بالشكل الأمثل من أجل هذه الثورة الشعبية الاستثنائية ، وبعد الخيبات المريرة التي أتحفتنا بها الأحزاب السورية التقليدية التي جثمت على صدورنا كالكابوس وأصرت على تمثيل الثورة … صرنا نشعر تجاهها شعوراً مشابها لشعورنا تجاه أعضاء القيادة القطرية، ونحن نرى المحسوبيات والولاءات وعدم الشفافية وعدم المبالاة .. شعورنا تجاه من تأملنا بهم خيراً أشد وأقسى .. وأكثر إيلاماً ..
الجيل السوري الجديد الذي يتشكل اليوم، يخرج من مخاض هو الأشد دموية، لن يقبل إلا بصلابة أخلاقية تمكنه من طي صفحة هذا الكابوس نهائياً للبدء في رحلة استعادة الانسانية.
مانيا الخطيب
هلسنكي