عندما استيقظ عليٌّ في الصباح لم يكن يدري أن حياته و شخصيته ستتغيران للأبد. كان يومَ جمعة و كانت رائحة الفول المدمس و التسقية تفوحان في غرفة الجلوس بانتظار تجمع العائلة. وجلست العائلةُ تتناول الفطور الأسبوعي و عيونها مشدوهة على التلفزيون.
كان علي يلوك طعامَه و هو يفكر كيف اندلعت هذه الثورة التي لم يكن يتوقعها أحد …وكان ينظرُ إلى قوة أهل درعا الذين خرجوا ثأرا لكرامتهم و كرامة و صحّة أولادهم الذين تلقّوا التعذيب في سجن مدينتهم. و فكر في نفسه كيف استطاعوا الخروج بهذه الكثرة دون خوف رغم الرصاص و القتل. و سائل نفسه: لو كان هو من درعا, هل كان سيجرؤ على الخروج للتظاهر؟ أم هل كان سيبتلع الإهانة و يجلس في المنزل يدعو للمتظاهرين؟ كل العائلة كانت تأكل بصمت حزنا على القتل و انبهارا بهذه الشجاعة المنقطعة النظير.
قام علي و أخوه ووالده ليتوضأوا و يرتدوا ثيابهم للصلاة في الجامع و هناك استمعوا إلى خطبة حقِّ الجار و لكن ما أن انتهت الصلاة و نزل الخطيب عن منبره حتى قام 3 شبان مسرعين ليبدأوا هتافاتٍ نارية كـ “الشعب السوري ما بينذل” و “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”. و لحقهم من لحقهم و ارتعب من ارتعب و منهم أبو علي. ارتعدت أطراف أبو علي بعد سكينة و خشوع الصلاة و أصاب الهلع قلبه خوفا على ولديه فأمسك بيديهما و جذبهما كطفلين مهرولا الى سيارته بعيدا و لكن عيني عليّ ظلتا معلقتين بالمشهد السريالي الذي لم يعتده أحد في سوريا إلى أن غاب المشهد عن عينيه و إن علقَ في باله.
و ظل علي طيلة الأسبوع يحلم بخروجه في مظاهرة لعل سورية تتحرر من النظام النازي و ليثبت لدرعا أنه معها و لكن أولا ليثبت لنفسه أنه رجلٌ. و أخذ يعيد السيناريوهات في مخيلته فتارة يعود إلى بيته منتشيا بنصر الثورة و حينا يُعتقل بكل وحشية و غالبا ما يُقتل. لكن ذلك كله لم يثنِه عن رغبته في التظاهر و لو من باب التجربة.
وفعلا…في الجمعة التالية كان يتمنى في قرارة نفسه أن تخرج مظاهرة من نفس الجامع و لم يركز فيما تكلم عنه الخطيب من فضل الصلاة و قلبه يخفق و عيناه تتفحص الموجودين. هل سيفجرها ذو القميص الأخضر أم ذو الكلابية الذي يلتفت حوله؟
و دون أن يدري نزل الخطيب من المنبر و بالفعل قام المصلون و توجهوا خارج الجامع هاتفين للحرية و الكرامة و كالمرة الماضية قفز والده ممسكا بيدي ابنيه جارّا إياهما إلى السيارة و لكن علي كان متمسمرا في مكانه لا يتحرك…هزُّ رأسه بحزم وعلى شفتيه علامات التصميم و في عينيه علامات الترجّي. تردد والده للحظات ثم شدُّ على يده بقوة قبل أن يفلتها و يهرول خارجا مع ابنه الأصغر.
و خرج علي راكضا ليلحق بالشباب الهاتفين مِلء حناجرهم و بدأ يهتف معهم. كان صوته صغيرا و ضعيفا في البداية و دون أن يدري كان يختبئ خلف أحد الشباب و رأسه منخفض و جسده منكمش و كأنه يريد أن يكون موجودا و غير موجود في آن معا. و لكن مع كل دقيقة كانت تمر كان ينضم إليهم من الأرصفة شبان جدد كانوا مثله يمشون صامتين أو هامسين. بعد عدة دقائق شعر علي بيد توضع على كتفه و عندما التفت علي ليرى الشخص رأى رجلا في عقده الرابع يبتسم مطمئنا إياه بينما لا يزال يصرخ بصوتٍ مبحوح “الشعب السوري ما بينذل”. و بدأ علي يفتح صدره و يشد قامته رويدا رويدا و بعد دقائق صاح بصوته الجهوري ” الشــــــعب الســــــــــــــوري ما بـــــــــــــــــــــــــــينذل” و مع كل صيحة كان صوته يعلو و يعلو ليصل طبقات لم يكن يدري بوجودها في حباله الصوتية. و مع كل صيحة كان شعور يدغدغ قلبه بمزيج من الحماسة و الترقب و اللهفة…شعور كان يشعره عندما كان طفلا يدفعه والده على الأرجوحة عاليا عاليا…شعور من كان قلبه يرفرف و يخفق.
وهجم الشبّيحة و الأمن و بدأوا يضربونهم بالعصي و الهروات كيفما اتفق و ركض كل منهم باتجاه و أطلق عليّ ساقيه للريح و هو يضحك رغما عنه.
كلّ جمعة يخرج علي بعد أن يقبِّل يدي أمه و أبيه و يقرأ سورة يــس. يطمئنهم بأنه سيعود للغداء معهم و يطلب من أمه طبقا معينا لتنشغل به. أما هناك في شوارع مدينته الغالية كان يشعر بالحرية حتى قبل أن ينتزعها من براثن النظام. يشعر بالحرية تشع من وجهه و كيانه و أطراف أصابعه و يحل محل الخوفِ الأولي المحتومِ شعورا بالنشوة و كأنه ملك العالم..يحس بأن هؤلاء المتظاهرين الذين لا يمتون له بصلة هم إخوته و أصدقاءُ طفولته ..يخاف عليهم و يخافون عليه و تجمعهم أسمى القرابات: قرابة الوقوف في وجه الظلم و القدرة على التغيير.
الآن أدرك و استوعب لماذا كان عصفورهم “عسلي” يطير كالمجنون في أنحاء الغرفة خافقا بجناحية بكل اتجاه عندما كانوا يفتحون له القفص…
- شكرا جزيلا جدا للشباب الرائعين اللي فادوني من تجربتن
- هذه القصة مهداة لأهل مدينتي حلب علّها تصلهم مع العلم أن كثيرا منهم يغلون و يحاولون التظاهر
بقلم: RamaPanorama