لم يستطع أحدٌ النومَ ليلة البارحة فجميعنا كان يتسامر مع الشهيد جمال في ذكرياته وحتى في حاضره و..مستقبله..كانت الصدمة قاسية على الجميع و دموعنا كانت حارقة لاهبة لم تعرف السكينة إلا عندما نتذكّر أنه الآن في أعلى عليّيّن..
كان جثمانه الطاهر قد سلّم لمشفى البرّ بعد أن وقّع أهلى على جميع الأوراق التي تثبت كيفية وفاته النظرية …الواضحة..وبين جدليّة التوقيع أو عدمه ..قررت العائلة أن الأوراق و الأحبار في هذا الوطن لم ولن تساوي قطرة دم الشهيد..
لأني كنت أعلم تماما أني سأذهب إلى الجنازة بعينين : عينٌ دامعة هي عين الصديق..و عينٌ ناقلة ٌ هي التي نويت أن أكتب لكم ما حدث..ضمن إمكانيات حروفي المتواضعة…
في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا وعملا بنصيحة أحد الأصدقاء ألا أذهب بسيارتي الخاصة ..أوقفت تكسي :”على باب السباع لو سمحت؟” ..أعدت الوجهة مرتين .ونظرت في وجهه..لم يستغرب ولكن استفسر : خير عمّي في شي؟؟..كان جوابي :في جنازة شهيد..
صمت كلّ الطريق..أطفأ الراديو ..واخترق صمت سيارة السابا دعوات بتعجيل الفرج..ورفع البلاء..
عندما وصلنا إلى أول شارع باب السباع قرب حاجز الأمن كانت السيارات تملأ الشارع ..فقرر سائقنا اتخاذ شوارع فرعية حتى يصل إلى جامع المريجة..
وعندما وصلنا استغربت أنه ركن سيارته ..و نزل إلى المسجد..لربما صمتنا خلال هذه التوصيلة جعل قلبه يدفعه إلى أخد قيلولة للصمت ..و المشاركة..
بقي على صلاة الظهر حوالي النصف ساعة ..لكنّ المسجد كان ممتلأ عن بكرة أبيه..جامع المريجة يقع في صدر شارع باب السباع الرئيسي..لا آثار للقصف عليه..حاولت التمحّص بكل شيء..لا إرادتي كانت تسرق من بين دموع لم أعرف من أين تأتي مهرولة على خدودي مشاهد للذكرى و الذاكرة
جامع المريجة بسيط ..لا أثر لأي فخامة عليه..مراوحه السقفية أكثر بكثير من مكيّفاته..وطلاؤه يحتاج إلى طلاء..إلى هنا ما زلت في وعيي و إدراكي لما حولي..
إلى أن شممت عبقا لم أعرف ريحه من قبل..جسما نورانيّاُ يستلقي على الأرض..كانت آخر مرة قابلت فيها الشهيد جمال منذ حوالي 18 يوما ..بكامل صحته وعافيته ..لا أثر لأي فيروس أو جرثومة ..سوى أنه كان ينتمي إلى فصيلة جراثيم الحرية..
ساقتني دموعي و هتافات التهليل إلى وسط باحة المسجد حيث يرقد هناك..تلتلفّ حوله الجموع المهنّئة..اقتربت اقتربت اقتربت ..و إذ بي أرتعد من خشوع المنظر..وجه نورانيّ لم أره في حياتي ..بسمة ارتسمت على محيّاه أعلم أنها استلقت على شفاهه في لحظة ألم دنيويّ..و أمل أخرويّ..لا يستطيع من يرى براءته أن يفكّر أنّ مثل هذا المَلَك كان مسلّحا..أو مندسّا..من يبيع الدواء لا يشتري الموت لأحد..
لبس ثوبا أخضرا من فوق كفن استلقت حوله الزهور الحمراء كأنه الربيع ..
دفعتني ذكرياتي معه وحبّي لشاب ناضل في الغربة ليتعلّم الصيدلة ليعيل عائلة فقدت أباها إلى الاقتراب أكثر و أكثر..
لم أكن اشعر أنّ شلالات الدموع قد بللّت ما تبقّى لدي من جفاف ..قبّلت جبينه ..و ذهبت لأبارك لأخيه الباسم أمام الجميع..
بعد صلاة الظهر التي دعا فيها أحد الشيوخ بكل ما أوتي من علم أن يعجّل الفرج ..و سأل الله الانتقام فهو المنتقم الجبار..وبعد أن ضجّ المسجد باصوات ما يقارب 2000 شخص مكبّرين مهللّين ..حُمل الجثمان على الأكتاف ليكون إماما للأئمة ..في طقس ربّاني حكيم..
لم أجد في طقسا في الاسلام إلا ويبدأ بالله أكبر..في تلك اللحظة راجعت استغراب الناس جميعا من التكبير..لم يخترعوا كلمة من عقلهم..استنتجت أن الاسلام يدور حول كلمة الله أكبر..
قبل أن تبدأ الصلاة ألقى أحد الشيوخ كلمة الشهيد التي كتبها الشهيد في صفحته على الفيسبوك بتاريخ 19-06-2011 حيث يقول فيها أن الموت سيأتي على الجميع .. فلم لا نموت و نحن أبطال
ثم تلى أحد الشيوخ رسالة من أم الشهيد تزف ابنها فوصفته أنه : نور عينها ..و بشهادته قد برد قلبها بعد أن كانت تخاف عليه من فتن الدنيا..
و كلما كانت الكلمات شديدة ..اشتدّ الهتافات في المسجد..أبرزها “وهيي ويالله..ما منركع إلا لله “”
كان جوّا عاطفيّا بامتياز ..تكاد لا ترى إلا دموع الرجال تحيط بك ..ممتزجة بنظرات عيون شابّة لا تعرف اليأس..
أقاموا الصلاة على الشهيد..و حُمل على الأكتاف إلى مقبرة الشهداء ..
كان يتسابق الجميع لحمل النعش..لعلمهم أنهم يحملون لا ثوابا فحسب..و إنما يحملون مسيرة ودربا ..
حوالي 2500 شخص زفّوا الشهيد في موكب جنائزي لم يعرف الصمت كباقي الجنائز..لم يعرف موسيقا كلاسيكية كتلك التي تسمعه في جنازات الرؤساء ..لم تسمع إلا هتافات القسم بإكمال طريق الشهيد ..والمطالبة بالحرية والكرامة…
سألت أحد المارّين : أين سيدفن؟ قال في مقبرة الشهداء , هي صغيرة ولكن مقبرة الضيق تسع ألف شهيد..وقال: جهزّنا قبور لجمعة لقدّام..بتعرف كل يوم عنّا عرس…طلب منّي أن لا أطيل البقاء بعد الدفن ..خوفا من رصاص يأتيهم دوما بعد كل جنازة لتفريقها..
قال لي: لا أتوقع ان يطلقوا النار اليوم ..فالسفير التركي قالوا لنا أنه كان هنا البارحة..ألله بيين..
عندما وصلنا إلى المقبرة فوجئت مجددا ببساطة القبور ..فوجئت أن من هو مدفون هنا لا يمكن أنه يكون قد طلب جاها أو مال ..في أحدى الزوايا جلست عجوز تحت أشعة الشمس تتلو أيات من القرآن..على قبر شهيدها ..
حوالي خمس دقائق ..كان جسد الشهيد جمال يبدأ رحلته الابدية إلى عالم اختاره بملء ارادته و خياره ..فسخ خطبته قبل اعتقاله بأيام مخاطبا حبيبته: عذرا فأنا مشروع شهيد..علم أن 72 حورية في الجنة بانتظاره الآن…
عدنا أدراجنا نخلط مشاعر الألم بالأمل …و لأقول بصراحة بعد أن حاولت أن أجنّب عاطفتي بالكتابة : جمال كان غائبا بيننا عندما كان حيّا أكثر من غيابه الآن وهو شهيدا..
متى سيفهمون أن كل شهيد سيوقظ ألف مشروع شهيد…
و أقسم بالله أن استشهاد جمال و عدنان و هادي و البقية قتل صمت حمص ..
واسمحوا لي أن أختم كلماتي بكلمات خطرت ببالي اليوم و أنا أقبّل جبينه الطاهر:
عندما نفقد عزيزاً شهيداً وفي لحظات الهيجان و تلقّي خبر زفافه .تتمنّى لو تستطيع أن ترجع إلى عصر الجاهليّة وعصر داحس و الغبراء فتمتطي الخيل و تتمنّى الانتقام..
ولكنّ شيئاً ما أكبر من هذه المشاعر يسيطر عليك وهو : سلميّة الوطــن …و أنّ ما نحتاجه ليس رائحة البارود و دوّامة الانتقام ..بل نحتاج لعبق الصبر و الوعــي والإيمان والثقة
فتُذهب سلميّة الشهيد .. ردّات فعلنا الغاضبة ..ونعي تماماً أنّ:
ردّات فعلنا لن تكون كفعلهم.. ولكنّ وعينا لن يجرّنا أيضاً لفخّهم.
عذرا للأيجاز رغم الإطالة…
و إنا لله و إنا إليه راجعون
——————–
يامن الشامي