خرجتُ من عملي مسرعة و أنا في قمة السعادة و الشوق. ذهبت أولا إلى محل الكاتو الذي كان قد حضر سلفا الكاتو الذي طلبته و كتب عليه العبارة التي طلبتها منه. محل الكاتو هذا بعيد عن بيتي و لكنني أصريت عليه دعما له إذ كان ابن مالك المحل قد اعتقل لفترة 30 يوما مات فيها صاحب المحل الف مرة. كانت أمي قد نصحتني بالذهاب الى محل الحلويات الآخر الذي كان في نفس شارعنا و الذي كنا نتعامل معه قبل الثورة و لكني نظرت في وجه أمي طويلا و بفمٍ مفتوح فقالت لي معتذرة “والله بعرف …بس كتير شوب تطرقي مشوار للمحل التاني و هاد بنفس الشارع”. أمي تعلم تماما أنه من المستحيل أن أخطو خطوة واحدة داخل محل الحلويات ذاك بعد ما فعله بابن جارنا. ابن جارنا حمودة كان في العشرين من عمره عندما غلى الدم في رأسه و أصر على التظاهر مطالبة بحرية سوريا. و ما أن انتهت المظاهرة و رآه صانع الحلويات راكضا بسرعة هربا من الشبيحة حتى خرج مسرعا من محله ليقبض على كم قميصه و يسلمه للشبيحة.
جلست في التاكسي و كان الراديو الرسمي يجري مقابلة مع نجدت أنزور و بطلة عمله الجديد “يا محلاها الحرية” و كان كافيا أن نتبادل أنا و سائق التاكسي نظرة في المرآه ليعرف أني أوافقه الرأي و أن هذا الدنئ أصبح يتزلف للثورة فقط بعد أن انتصرت. مد يده و حول القناة.
عندما رأينا شرطي مرور أمامنا ارتبك السائق قليلا و نظر بحذر للشرطي دونما وعي منه. إلا أن الشرطي ابتسم بلطف و أشار بهراوته أن تابع مسيرك… نظر السائق إلي في مرآته خجلا من خوفه اللا مبرر و قال “بتعرفي يا أختي هاد الخوف اللي معشش بعذامنا بدو وقت ليطلع منها”. و ابتسمت مدركة تماما لما يقول.
كنت أمر في مدينتي حلب و أنا أتأمل الناس و الحجارة…مررنا من أمام ساحة سعد الله الجابري حيث كانت تقام حفلات التأييد للرئيس الهارب بشار الأسد. و تأملنا فيها النصب التذكاري الشامخ لشهداء الثورة…وحول التمثال الشاهق كانت أسماء الشهداء ال3500. هذه الساحة التي كانت حلم الثوار العصيّ أصبحت اليوم محج الحاجين بعد المظاهرة الضخمة التي حسمت الأمر في حلب و أرعبت المرتعبين…هذه الساحة التي دفأتها حرارة دماء أخلص شباب حلب أصبحت اليوم عزنا بمعركتها بعدما كانت ذلنا بحفلاتها.
صعدت الدرج حاملة الكاتو الضخم بين يدي و عند و صولي الطابق الثاني فتحت جارتنا لمياء الباب و ابتسمت لي بخجل سائلة إذا ما كنت أود أن أشرب القهوة عندها كمان اعتدنا قبل الثورة. رفضت عرضها بلطف و تابعت صعود الدرج. لا يزال لا يسعني أن أجلس معها في غرفة واحد بعدما كانت تسد الباب كلما رأتي نازلة أو صاعدة إلى البيت. في آخر نقاش لنا حول الثورة اتهمتني بالخيانة و التخريب قائلة بكل صراحة ” أنا مو شغلتي أتناقش مع تنسيقيات متلك بس بكرة سورية رح تحاسبك يا خاينة”. لمياء تتظاهر بفتح الباب مصادفة مع صعودي الدرج فقط في محاولة لتصل ما انقطع و لكن الأمر مستحيل بالنسبة لي. قولي عني لئيمة…أو قاسية القلب و لكن الغفران لا زال مستحيلا. ربما فيما بعد.
عندما عدت إلى المنزل وجدت أخي الصغير يتكلم عبر الهاتف مع صديقه متحدثين عن حرارة النقاشات في مقر الحزب الجديد. تأسس هذا الحزب كمجموعة سرية أيام الثورة متحولا الى حزب فتي بعدها. لم يلحظ أخي دخولي و مروري بجانبه بينما هو يقفز شارحا للطرف الآخر كيف يتم العمل الحزبي بمهنية و كيف توجب عليهم النظر الى مصلحة الشعب و تناسي المشاكل الشخصية بينه و بين أمين عام الحزب.
ابتسم لي أبي بحنو و طبعت قبلة على خده و سألته إن كان محتاجا لمساعدة فيما كان يفعله. كان أبي لا يزال يتعلم كيف يدفع فواتير الهاتف و الماء و الكهرباء عبر الانترنت. جلست لأساعده فالأمر بسيط جدا إذ أن الحكومة الجديدة فعلت مافي وسعها ليكون الأمر سهلا و مريحا و لكن أبي رجل ستيني فلا عجب أن وجد الأمر غريبا الا انني استطعت أن ألمح مدى السعادة بالتطوير في عينيه. أكبر دليل هو إصراره على القيام بهذا العمل بنفسه كل شهر.
جاءت أختي الصغيرة هلا و هي فرحة لتريني كيف ذُكِر اسم عمنا رحمه الله في كتاب التاريخ الجديد. روت لنا بحماس كم افتخرت أمام أصدقاءها في الصف عندما قرأ الأستاذ اسمه و عدد مآثره و ملحمته بقليل من المبالغة و كيف لمعت عيناه عندما قالت له أن هذا عمها الصغير الذي كان من تنسيقيات الثورة و كيف قضى في وسط بيتنا متأثرا بجراحه بعد مظاهرة سعد الله الجابري الكبرى. و رأينا دموع أبي من وراء كمبيوتره تتلألأ على خديه.
و خرجت أمي من غرفتها مرتدية ثيابها التي ترتديها في كل سنة في مثل هذا اليوم. هذه هي الثياب التي كانت ترتديها عندما عاد أخي إلى البيت فاقدا عينا و هي تماما نفس الثياب التي تلقينا بها خبر هروب الطاغية و تحرر سورية …هذه المرة إلى الأبـــــــــــــــــــــــــد!
في كل سنة و في مثل هذا اليوم تحتفل سوريا كلها بالحرية….نطفئ الأنوار في تمام الساعة الثامنة مساءً حزنا على الشهداء ثم نبدأ سهرة صباحيةً نتناول فيها أطيب المأكولات و نشعل شمعة جديدة. اليوم سنشعل الشمعة الرابعة و غدا عطلة.
ولكن بعد العطلة نعود لعمل لا يكل و لا يمل لنعيد بناء سوريا…أو لنقل لنبني سوريانا المدنية التي طالما حلمنا بها. سورية التي يعود خيرها علينا وحدنا و علينا كلنا….سوريا التي عادت طفلة موفورة الصحة و النضارة.
——————————-
RamaPanorama
3 تعليقات
جميل الحكي والحلم حلو سوريا الاسد باقية للابد كلو كاتو لبكرا
روعة تسلم ايديكي
عدتها مرتين من ئد مو حلوة 🙂
حرام عليكي إلي عملتيه فيني… والله وقف شعر بدني كلو… و دمعو عيني و انا عبقرأ عن مظاهرت الجابري الكبرى وتذكرت اللوحة الكبيرة قدام الحديقة العامة وصمودا المستفز لأي حر في حلب… ان قدر لسوريا(الاسد) ان تستمر عقولة اخ مارك، فرح تستمر مو بسبب قوة النظام، ولكن بسبب الذل إلي ادمنو عليه الناس عنا…