من الحجج التي اجترها حكامنا المستبدون وساقوها واحداً وراء الآخر ليثبتوا حكمهم حجة بعبع الإسلاميين. فكان شعار أحدهم: إما أنا أو الإسلاميون ذوي اللحى والسواطير. ومما هو معلوم أن هذه الحجة أفادتهم إلى حد ما في كسب دعم من الدول الغربية التي تفضل أن يحكم هذا الشرق شيطان على أن يتسلمه من يدعونهم بالإسلاميين المتطرفين. وبانهيار عرش مبارك – الذي لم يكن مباركاً على الإطلاق – رأى العرب والغرب أن البعبع الذي كان فرعون مصر يذكرنا به في كل قيام وقعود لم يظهر.
ومع أن لي تحفظاً على كلمة “السلفية” وعلى من يوصفون بالسلفيين، إلا أنني لن أشتت ذهن القارئ وأخرج عن موضوعي ولذا سأستعمل الكلمة بدلالاتها المتعارف عليها.
أين الإمارة السلفية المصرية؟ وأين أولئك الذين تبلغ لحاهم من الطول ما يقارب أطراف أثوابهم القصيرة؟
لم يرَ المصريون هؤلاء يحتلون الساحة السياسية بعد سقوط النظام، ولكنهم رأوا شباباً واعياً ملتزماً وغير ملتزم يعمل بجد لحماية الثورة وبناء مصر. رأوا إصراراً يفل الحديد على المطالب الكبرى، وعزماً يهز الجبال على الاستمرار حتى النهاية.
وهنا في سوريا.. كان من الافتراء الذي امتهنه إعلامنا في هذه الأزمة اختلاق روايات عن إمارة سلفية يخَطَّط لإنشائها في درعا أو في حمص. وسمع الناس عن الأمير الذي يجوب البلدة بفرسه. وكان العاقلون يضحكون وهم في سريرتهم يبكون. أي استهزاء بعقول البشر هو هذا؟
وموضوع الإعلام السوري يلزمه حديث أطول من هذا على كل حال وله وقته.
وما يعنيني هنا هو حقيقة خطر التطرف الإسلامي الذي يتهدد دولنا في كل حين حسب ما يروج له طغاتنا.
إن المتأمل لأحوال بلادنا قبل وخلال وبعد الثورات يجد أن الأغلبية الساحقة من المسلمين تريد دولة مدنية تقوم على أساس المواطنة والقانون وتحكم بالعدل والمساواة. وجماهير المسلمين هذه فيها المتدين المثقف، وفيها غير المتدين مثقفاً كان أو عامياً.
فأما المتدينون المثقفون فهؤلاء طبقة تفهم طبيعة الحكم في الإسلام، وتعرف أن دولة الإسلام هي قبل كل شيء دولة مدنية وأن الفكر السياسي الإسلامي في أصوله النّقية أبعد ما يكون عن الدولة الدينية بمعنى الثيوقراطية، فهو يرفض سياسة الكهنوت كما يرفض كهنوت السياسة. ولا يقبل في السياسة الشرعية أن يحكم الحاكم باسم الرب أو باسم الملكوت الأعلى، كما لا يقبل من حاكم أن يستبد برأيه في حين أن رسول الله صاحب الوحي أُمر بالشورى والتزم حكمها. وسياسة الشرع أيضاً لا تضع أحداً فوق القانون ولا تعفي أحداً من المساءلة.
ولذلك يناضل هؤلاء من أجل إقامة دولة مدنية تكفل الحقوق وتقيم العدل، وجل ما يعنونه إذ يقولون “نريد حكماً إسلامياً” هو أنهم يريدون حكماً قائماً على أسس إسلامية كالعدالة والحرية واحترام الحقوق، وهذه الأسس هي بطبيعة الحال من المشترك الإنساني لدى مختلف الأمم. وكون هؤلاء المثقفين من طبقة متدينة فهم يعنون بالحكم الإسلامي من جهة أخرى أنهم يريدون أن يروا حرمات الله تؤخذ بحزم أكبر وتواجه بجدية أشد، فتقام الدولة على أسس أخلاقية رفيعة وتحارب الرذيلة بكل جهد متوفر.
وأما غير المتدينين– مثقفين كانوا أم عوام – فهؤلاء لا يعنيهم أن يقام حكم إسلامي، بل لعلهم أميل إلى رفضه منهم إلى قبوله. وهذا الموقف راجع في الأغلب إلى سوء فهم لهذا الحكم أو لشدة الاقتناع بالفكرة العلمانية في الفصل بين الدين والدولة أياً كان هذا الدين وأياً كانت تلك الدولة.
ولعلك تسأل عن صنف أخير من جماهير المسلمين، وهو المتدينون غير المثقفين. وهؤلاء موجودون طبعاً، ولكن من الصعب جداً تحديد توجهاتهم لأن آراءهم لا تكون في الغالب مبنية على أسس يمكن استقراؤها، وإنما ينساق هؤلاء مع أكثر التيارات الدينية جاذبية. فإن نجح المتدينون المثقفون في كسبهم إلى صفهم كانوا معهم وإلا فهم إما في زمرة اللامبالاة أو في زمرة الأحلام المتخبطة.
فأما اللامبالاة فهي التي تقوم على منطق “من تزوج أمي أصبح عمي”. أي أنهم لا فرق لديهم في شكل الدولة واسمها طالماً كفلت حقوقهم وأقامت فيهم العدل. وأما زمرة الأحلام المتخبطة فأقول أحلاماً لأن آمالهم السياسة لا تكون في الغالب منهجية أو مخططاً لها في حدود المتاح، وأقول متخبطة لأنهم في الغالب لا يملكون تصوراً واضحاً عن “الدولة الإسلامية” التي يطالبون بها. فهل تريدون إذاً حاكماً تنادونه بالخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما أركان حكم هذا الحاكم وما مرجعيته؟ هل يشكل مجلس شورى؟ أم يكتفي بالقرآن والسنة؟ ومن هم أهل الحل والعقد في زماننا وما مهمتهم؟ وما آليات انتقال السلطة من خليفة إلى آخر؟ وهل تريدون حاكماً يحكم في القرن العشرين بوسائل القرن السابع؟ أم برؤية وأسس القرن السابع؟ وهل يكون هذا الخليفة لبلدكم دون غيرها؟ أم تقبلون أن تبايعوا “خليفة” من بلد مسلم آخر قد يكون من ماليزيا أو الباكستان؟ ماذا نفعل بالمؤسسات الموجودة والقوانين الموضوعة؟
فالفرق بين المتدينين المثقفين وغير المثقفين يكمن في القدرة على الإجابة على الأسئلة السابقة وغيرها بإجابات موضوعية وواقعية ومدروسة. والذين هم في زمرة المتدينين غير المثقفين مهما بلغ عددهم ليسوا أصحاب قول فصل لأن تخبطهم لا يمكن أن يتحول إلى برنامج سياسي، على الأقل في المستقبل المنظور. والمتوقع أن يمل هؤلاء فيعتزلون الأمر تاركينه لمن يحمله عنهم، أو أن يقتنعوا بفكرة ينساقون وراء صاحبها أو أصحابها.
قد نتفق أو نختلف على هذه التصنيفات، ولكن جوهر الأمر أن الأغلبية المسلمة في بلادنا ليست في صدد تتويج “خليفة” تكون أولى مهماته قطع الأيادي وتحجيب الرؤوس .. وغاية سياسته رفض الغرب والغريب ورسم الحدود بين “دار الحرب” و”دار الإسلام”. كما أن جماهير المسلمين ليسوا في صدد اختيار سلالة “مباركة” أو “مجتباة” يكون فيها الحكم إلى ما شاء الله.
إن المسلمين إذ يحنّون إلى الحكم الإسلامي فإنهم يحنّون إلى ورع حاكم يبكي خشية من سؤال الله له عن زلة قدم نعجة! ويحنّون إلى عدل حاكم يقتصّ للقبطي من ابن الوالي! ويحنّون إلى عزة جانب حاكم يخاطبه الأكاسرة والقياصرة بصاحب الجلالة والعظمة! ويحنّون إلى أمانة حاكم تخرج في بلاده الزكاة فلا تجد مستحقاً لها لأنه قد أغنى الناس! ويحنون إلى نزاهة حاكم يحاججه رجل وهو على منبره سائلاً من أين لك هذا الثوب! ويحنّون إلى تواضع حاكم تقف في وجهه امرأة من الناس فتصوب خطأه، ويصيح به أحد أفراد رعيته “والله لنقوّمنك بحد السيف”!
آن لنا أن نعلن براءة بعبع الإسلاميين .. وآن للجميع ألا يقفوا عند حدود التسمية بل ينفذوا منها إلى الحقائق والمعاني علنا نسمع بعضنا ونصل ببلادنا إلى بر الأمان بعد الخلاص من الطغاة وأشباحهم الكاذبة.
—————–
kalemat haq