وصفت في مقالة سابقة ما يدعى اليوم بـ “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا” بالمقولات التالية: “أما هيئة التنسيق واسئلة الأستفهام التي تكثر حولها وحول شبهة الصفقات، فلا حول لها ولا قوة، الشوارع الثلاثة التي تريد تمثيلها، عقلية المثقف الطليعي القديمة التي تريد أن تلعب السياسة في ملاعب كرة القدم، والسقف الأدلوجي الذي أخرجوه من ثلاجة الحرب الباردة”، وأرى أن هذه المقولات الثلاثة يمكن أن تكون مقولات مفتاحية لفهم هيئة التنسيق كنموذج للفوات التاريخي.
ففي سوريا اليوم أربعة شوارع، شارع منتفض وشارع صامت وشارع خائف وشارع الشبيحة، هيئة التنسيق تحاول أن تمثل الشوارع الثلاثة الأولى، وهنا المفارقة الأولى، فالشارع المنتفض يعبر عن نفسه سياسياً ويضفي المشروعية على القوى السياسية بمقدار نزاهتها في ترجمة الشعارات التي يرفعها، مع هذا الشارع يمكن للعمل السياسي أن يكون ديموقراطياً وتمثيلياً أما الشارعان الباقيان فلم يتمكنوا من كسر حاجز الصمت ومن إنتاج تعبير سياسي خاص بهم، مثقف هيئة التنسيق بعقليته الطليعية المستمدة من أدبيات اليسار الصفراء يريد أن يلعب دور المثقف التاريخي والقائد الملهم والحزب الجماهيري، لم يفهم أن أحد أهم خلاصات الثورات العربية تكمن في رغبتهم بالقطيعة مع العقلية الاستعلائية للتشكيلات السياسية العربية وتوقهم إلى إعادة إنتاج السياسة مجتمعياً، واعتقد أنه يمكنني الادعاء بأن السياق التاريخي الذي احتضن المعارضة السورية قبل الثورات العربية مختلف تماماً عن سياقها الراهن، في البارحة كان من المشروع أن تعمل المعارضة على الحفاظ على حضور ضميري وبلورة رؤية جامعة أما اليوم فالمطلوب منها التجاوب مع الشارع المنتفض، ترجمة شعاراته سياسياً وبنزاهة، دعم حراكه والتجاوب معه، المطلوب اليوم السياسة كفعل مجتمعي عضوي لا السياسة كحضور ضميري تاريخي.
المفارقة المؤلمة “الأخرى” أن هيئة التنسيق على الرغم من خلفياتها اليسارية والتي تثقب الأذن من كثرة تكرارها لمفردة الشعب تبدو أكثر من يستحقر الشارع المنتفض والذي يشكل اليوم ما يمكن تسميته بالشعب، إنها بمعاكستها لشعارات الشارع تثبت أنها مجرد امتداد تاريخي لليسار التقليدي المنحسر والذي يبني مشروعيته الأدلوجية على مقولات “الشعب” و”الطبقات الشعبية” في حين يرسم برامجه السياسية على أساس ادعائه بتخلف الشعب وطليعية المثقف.
ولعل شعار الحماية الدولية هو ما فجّر الخلاف بين هيئة التنيسق وباقي القوى السياسية المعارضة، والمشكلة هنا في السقف الأدلوجي الذي ارتهنت به هيئة التنسيق والذي يمنعها من رفع سقفها لإبصار الأفق التاريخي الجديد الذي ترسمه الثورات العربية، وأدعي أن هذه الثورات تحاول إنجاز قطيعة أدلوجية مع الأدلوجة القومية العربية التقليدية والتي يشكل النظام السوري تعبيراً نموذجياً عنها، اليوم تبدو مسألة فلسطين مشكلة تواجه تقدم العرب الحضاري ولكنها فقدت ألف ولام التعريف، فلم تعد المسألة بقدر ما استحالت إلى مسألة، مسألة بين المسائل، وحلها سلمي قائم على تفاوض دبلوماسي، يتطلب قامة سياسية تبدو للخارج كلاعب وندّ يحترم العقلية المصلحية التي تحكم عصبة الأمم ويستوعب دروسها ويعمل وفقاً لمنطقها، بل أدعي أن هذه الثورات باتت تنظر إلى مسألة بناء الدولة الوطنية على أسس مدنية ديموقراطية وتعددية هي المسألة، وأن هذه الدول يمكن لها أن تشكل كيان سياسي قومي قادر على تحقيق حلم العرب في التوحد وفي حل مسألة فلسطين.
ما أريد قوله عن هذه النقطة أن هيئة التنسيق لم تستطع أن تستوعب هذا المزاج أو على الأقل لم تستطع استلهامه في روحيتها السياسية فباتت كمن يحاور الخصم في ميدانه، مما جعلها عاجزة عن مجاراته وأجبرها على الالتزام بشروطه والارتهان لعقليته وقيمه المفوتة تاريخياً.
هيئة التنسيق اليوم تبدو لي النموذج الأوضح لاختناق اليسار التقليدي وتداعيه سياسياً وأدلوجياً وأخلاقياً، وكل ما أتمناه ألا يكون اختناقها مزعجاً للوجدان السوري على الرغم من أن تصريحات بعض رموزها ونفسهم الاتهامي يوحيان بعكس ذلك، ولكن نتمنى على القوى السياسية الأخرى أن تحافظ على روحية بعيدة عن التخوين ومزودة بنفس نقدي سجالي قادر على بعثرة صدى هذه الاختناقات ولجم تأثيرها بروحية لسان حالها يغني .. لا أريد لهذه الثورة أن تنتهي!
——————————
وجد شعلان | سيروريا