( من ذكرياتي في “سوريا الأسد” – 1980)
في أحد رفوف مكتبتي، أحتفظُ بكتاب” الرياضيّات الحديثة” من تأليف الدكتورة “إلهام الحمصي” التي كانت مُدرّسة في جامعة حلب في بداية الثمانينات من القرن الماضي وكان كتابها هذا مقرّرا علينا في تلك الفترة.
حرصتُ طوال هذه السنين على العناية بهذا الكتاب المُمَيّز بغلافه البسيط المقسوم لمساحتين أفقيتين مستطيلتين متساويتين، إحداهما باللون الأخضر، والثانية باللون الأصفر.
احتفاظي بهذا الكتاب غير نابع من اهتمامي بمادّة الرياضيات، التي كنت وما زلت أمقتها، إلى درجة أنني – الآن – أكاد لا أتذكر من الرياضيات سوى المبادئ البسيطة في الحساب، المقرّرة على طلبة صفوف المدارس الابتدائية، وطالما شعرتُ أنني جئت إلى كليّة الهندسة بمحض خطأ تاريخي، لا مجال لتداركه الآن…
اهتمامي بهذا الكتاب البارد الجافّ، نابع من أنه يثير في نفسي مشاعر حارّة تجاه فترة عشتها في جامعة حلب في سوريا، فترة ساهمت في تشكيل وعيي ومشاعري، وجعلتني ما أنا عليه …
كُنّا طلابا فلسطينيين فقراء، جئنا من بلاد الشتات خارج فلسطين، وجاء بعض منّا من فلسطين المحتلة، للدراسة في الجامعة، كثير منّا لم يكن يملك سوى كفاف العيش، واكتشفنا مُبكِّرا أن شراء الكتب الجامعية يشكّل عائقا لكثيرين في تحصيل دراستهم على النّحو الأفضل…
كان لا بد من اختراع حيلة تجعل الفقراء منّا قادرين على امتلاك الكتب الجامعية دون أعباء مالية إضافية، وتجعل الميسورين منّا قادرين على تحسّس احتياجات الفقراء، والمساهمة في حلّها دون أن يقعوا في المنِّ على زملائهم الفقراء…بعد عدة مناقشات، تفتّقت أذهاننا عن طريقة عمليّة في تبادل الكتب، فاتفقنا على أن يقوم كل واحد منّا بإحضار كتب السنة التي أنهى دراستها وتسليمها بموجب وصل إلى لجنة تشكّلت من ثلاثة طلاب، يقومون باستلام الكتب، وتصنيفها وفرزها حسب الكلّية والسنة الدراسية، وإعداد الكشوف اللازمة لهذا الغرض، وتطوّع أحد الطلاب الفلسطينيين المقيمين في حلب بتخصيص غرفتين في بيته لتكون مستودعا لتجميع هذه الكتب، فإذا جاء العام الدراسي التالي، كان من حقّ كل من تبرّع بكتبه أن يأخذ من مستودع الكتب ما يلزمه في سنته الدراسية الجديدة، بدلا عن كتب السنة الماضية التي تبرّع بها…قمنا بإعلان هذا الأمر بين الطلاب الفلسطينيين، وفوجئنا بحجم التجاوب الكبير، وخصوصا من الطلاب الميسورين، القادمين في الغالب من دول الخليج العربي، الذين كانوا يتبرّعون بكتبهم، ولا يعودون في السنة التالية لأخذ بديل عنها بل يشترون كتبا جديدة…
توفّر لدينا كثير من الكتب وصرنا نبحث عن الطلاب الفقراء لنساعدهم في توفير ثمن الكتب بإعطاهم مما لدينا من مخزون…وأصبح هذا الأمر مثالا للتكافل بين الطلاب يؤمن لهم الكتاب الجامعي بكرامة دون تسوّل ولا مَنٍّ من أحد على أحد، لأنك لا تدري لمن أعطيت كتبك وممن أخذت كتبك..كنا سعداء بهذه التجربة.
“فايد ملاك” أحد طلّاب كلية الهندسة الكهربائية في الجامعة. جاء من قرية ” عتّيل” التابعة لمحافظة طولكرم في فلسطين المحتلة..
فايد هو ابن لأسرة فلسطينية تنتمي إلى بيئة يغلب عليها طابع الفِلاحة وتعيش مستورة قانعة راضية بالقليل، غير أنها مثل جميع الأُسَر الفلسطينية تضع تعليم أولادها في مقدمة أهدافها، وتعتبر كشأن باقي العائلات أن من العار على ربّ الأسرة أن يقصِّر في تعليم أبنائه مهما كانت الظروف…
تفوّق فايد في امتحانات الشهادة الثانوية، فكان لزاما على أسرته أن تعمل كل ما في وسعها لتمكينه من متابعة تعليمه الجامعي…وهكذا توجّه فايد إلى جامعة حلب ودخل كلية الهندسة الكهربائية.
ليس في صفات فايد ملاك الخارجية ما هو مُلفت، فهو شاب رقيق الملامح، هادئ الوجه، خفيض الصوت، يُجلّله الحياء،وفي مشيته المتأنّيةتكاد تلحظ عَرجةَ خفيفة في أحدى ساقيه، ويعاني من رهبة الفلّاح –الخَفيّة- من المدينة، لكنّه يشعركَ بذلك الرضا والسّلام الداخلي الذي تشي به ابتسامته الخفيفة الدائمة…لم يكن لفايد أية اهتمامات خارج الدراسة، لا شأن له بالسّياسة، ولا شأن له بجميلات حلب، ولا تراه في أي مكان فيه صخب، كان طَيِّبا ووديعا، وهادئا…غير أن فايدا سرعان ما أصبح محط أنظار جميع زملائه وزميلاته، ومحطّ تقدير جميع أساتذته…كان فايد ملاك متفوّقا، يُحرز أعلى العلامات ، ويتجاوز الأرقام القياسيّة للعلامات، في جامعة يفتخر فيها من يحصل فقط على علامة النّجاح…هكذا اشتهر فايد “كأشطر” طالب في كلية الهندسة الكهربائية…
كنّا كطلاب فلسطينيين مهووسين بالسّياسة ويعاني أكثرنا من فشل دراسي ذريع، أو من تواضع في نتائجه الدراسية على أحسن تقدير، وكنا نعتبر ذلكضريبة لانشغالاتنا “النِّضاليّة” بما يجري في تلك المرحلة الحافلة بالأحداث والتطوّرات، كنّا نحن المُقصِّرين دراسيا نفتخر بفايد ملاك، ونرى فيه تعويضا عن عجزنا الدراسي..وهكذا تواطأنا جميعا على عدم إشغال فايد بنشاطاتنا السياسية ومهاتراتنا في الاتحاد العام لطلبة فلسطين…ولم يحاول أي منا أن يستميله للانخراط في تنظيم فلسطيني، مُبرِّرين ذلك بضرورة أن يخرج من بين أبناء شعبنا من هو متفوّق دراسيّا، بوصف ذلك شكلا مهمّا من أشكال النّضال…ولعلّنا لم نكن مخطئين في هذا التبرير…
فايد كغيره من الطّلاب الفلسطينيين دأب على التبرّع بكتبه إلى اللجنة المكلّفة بذلك، وكان يستلم بدلا عنها كتبا لسنته الدراسية الجديدة..
كان يسبقني بعامين دراسيّين…
عندما جئت لاستلام كتب العام الدراسي لسنتي الثالثة في الجامعة…أدخلني الزميلُ الذي يحتفظ بالكتب في بيته إلى المستودع …وأخذنا بتجميع الكتب المقرّرة عليّ في ذلك العام…من بين تلك الكتب كان كتاب “الرياضيات الحديثة” من تأليف الدكتورة “إلهام الحمصي”…يومها استهواني هذا الكتاب لأنني رأيته في حالة جيدة وكأنه غير مستخدم من قبل، فآثرت نفسي به…
عدت إلى البيت وأخذت بتقليب الكتب التي أحضرتها من المستودع…على الصفحة الأولى من كتاب الرياضيات الحديثة، كان فايد ملاك قد كتب اسمه…إذا فهذا الكتاب هو أحد كتب فايد ملاك…شعرت بأنني سعيد الحظ لأنني سأقرأ هذه المادة بكتاب أشطر طالب في كلية الهندسة، وزاد في سعادتي أن الكتاب عليه ملاحظات وشروحات بخط فايد ملاك…شعرت بألفة مع الكتاب ومع مادة الرياضيات الثقيلة على نفسي..
كان هذا في عام 1980 …وهي السنة الدراسية الأخيرة لفايد في الجامعة، حيث نترقب جميعا تخرّجه، ونتابع تقدمه في إعداد مشروع التخرج، ونلمح ذلك الفرح الطّفولي على وجهه كلما تذكّر أنه سيعود إلى عائلته في “عتّيل” حاملا أعلى العلامات، وشهادة الهندسة، ليساعد أباه في تحمّل المسؤولية…
سنة 1980 من أقسى السنوات في حلب…إنها من السنوات التي شهدت الصّراع بين نظام “حافظ الأسد” و”جماعة الإخوان المسلمين”، وحلب كانت واحدة من بؤر هذا الصراع الدّامي، الذي انتهكت فيه إنسانية الشعب السوري بحجة القضاء على ” زمرة الإخوان المسلمين المارقة” كما كان الإعلام الرسمي يُسمِّيها، وارتكبت في هذا العام وما تلاه، أبشع المجازر على يد سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد بطل المجزرة الشهيرة في حماة…
سيصادف أن تكون امتحاناتنا الجامعية في شهر تموز 1980…وسيصادف أن تكون تلك الأيام هي آخر أيام فايد ملاك في الجامعة، ففايد لا يفصله عن التخرج سوى هذه الامتحانات، ومناقشة مشروع التخرج، ليصبح مهندسا، ويعود سالما غانما إلى أهله في فلسطين…
كنتُ منهمكا مع زميليّ في السكن بالدراسة والتحضير لامتحانات ذلك العام…كنّا نسهر طوال الليل وننام طوال النهار..وكنا قد استأجرنا منزلا بسيطا، له حديقة مليئة بالورد والأشجار في حيّ سيف الدولة…كانت الحديقة هي المكان المفضّل لدراستنا حيث توفّر لنا جوّا لطيفا في ذلك الصيف القائظ…
فايد ملاك يسكن في حيّ الأنصاري مع زميله “جمال الظاهر” الفلسطيني القادم من لبنان، والذي لا يقلّ تفوّقا عن فايد..فالطيور على اشكالها تقع…
حيّ الأنصاري ليس بعيدا عن حيّنا…وأجواء حلب متوتّرة بفعل اقتحام “سرايا الدفاع” لها وتمشيطها بيتا بيتا واعتقال أو قتل الناس عند أقل شبهة..وحالتنا النفسية لا تقل توتّرا بفعل ما نسمع من فظائع وبفعل ضغط الامتحانات في أجواء كهذه…
فجأة سيشقّ سكون حديقتنا أصوات زخّات من الرصاص ودويّ انفجارات…وسيقول زميلي “حمزة” طالب الطب العارف بأحياء حلب، أن الصوت قادم من جهة حيّ الأنصاري، وسيؤكد على ذلك زميلنا الثالث في السكن، االفلسطيني “عمّار” -القادم من مخيم اللاجئين في مدينة حمص- والذي يدرس الهندسة المدنية…وسندخل في تكهّنات حول ما يجري قربنا..ثم سنتابع دراستنا لامتحانات الغد…
في اليوم التالي سيعود زميلنا “حمزة” – وهو سوري من دير الزور- من الجامعة حاملا جريدة، وهو يسألني ويسأل عمارًا إن كنّا نعرف شابّا فلسطينيا اسمه “فايد ملاك”…وسنجيبه أن فايد ملاك أشهر طالب في كليّة الهندسة، وانّه صديقنا…سيرتبك حمزة وهو يدفع لنا بالجريدة…وسنقرأ فيها خبرا عن مقتل أحد أفراد “زمرة الإخوان المسلمين المارقة” أثناء اقتحام “وكرٍ” لها في حيّ الأنصاري في الليلة الماضية…وسيخبرنا حمزة أنه سمع من الطلاب في الجامعة أن القتيل شاب فلسطيني اسمه “فايد ملاك”…
لم يكن بوسعنا تصديق ذلك…لايمكن لأحد أن يصدّق أن فايد ملاك، له علاقة بأي شئ غير دراسته…ولا يمكن لأحد أن يصدّق أن فايد ملاك يفكر في غير العودة بشهادة الهندسة، إلى أمه وأبيه في ” عَتّيل”…
قلنا لحمزة هذا غير صحيح..وفايد ضحية جريمة ولا شأن له بما يجري…
لم يقتنع أي شخص عرف فايد ملاك بأنه كان عضوا في ” زمرة الإخوان المسلمين المارقة”، ولم تعتبر جماعة الإخوان فايدا واحدا من أفرادها حتى اليوم.لكن اسمه أصبح منذ اليوم التالي لمقتله اسما ملعونا على لسان زملائه الطلّاب المرتبطين بالنظام كقطيع يردِّد ثغاء الإعلام الرسمي في وصف فايد بالمجرم …وسيصبح حادث مقتله مثالا لمصير مرعب لكل من يفكر بأي كلمة ضد النظام…وأما نحن أصدقاؤه فسنكتم غيظنا، ودموعنا،وسنتجنب ذكر اسمه أو أي علاقة لنا به خوفا من ملاقاة مصيره…
سنعرف فيما بعد أن فايد ملاك كان وحيدا في البيت، وأنه كان يدرس لتقديم امتحان المادة الأخيرة التي تفصله عن التخرج، وسنعرف أن “جمال الظاهر” ، زميله في السكن والكليّة، لم يكن معه في تلك الليلة…وأن باب البيت تعرّض لطرق شديد محموم، وأن فايدا نادى على جيرانه خائفا، مستنجدا، وأن الجنود المقتحمين قد أمطروا الباب بوابل من الرصاص، وأن فايد ملاك كان يقف خلف الباب، وأنه قُتل على الفور، وأن جثته قد سُحبت من رجليه، وأن رأسه النازف ارتطم بالأربعين درجة من باب شقته إلى الشارع، وأن جثته تُركت في الشارع لعدة ساعات كي تكون عبرة لمن يعتبر، وأن والده أتى إلى حلب بحثا عن جثة ابنه، وأن والده عاد خائبا دون أن يعرف مصير جثة ابنه..وأن والده سيصاب بعد عودته بحالة نفسية ستجعله يسير في شوارع “عتّيل” محدّثا نفسه، وأنّه سيموت بعد ذلك كمدا وحزنا على فلذة كبده….وسنعرف أن “جمال الظاهر” قد هرب وغادر سوريا ولم يتخرج من الجامعة، وستنقطع عنّا أخبار جمال الظاهر منذ ذلك اليوم، ولن نعلم عنه شيئا حتى الآن!!!
وسنعرف بعد تلك الحادثة بعدة شهور، أن أحد طلّاب كلية الطب سيعود مذهولا من درس التشريح، وهو يهذي باسم فايد ملاك…وعندما يتمالك نفسه سيحكي كيف وجد على طاولة التشريح، في كلية الطب، في جامعة حلب، جثّة صديقه فايد ملاك مُمدّدة أمامه كي يقوم بتقطيعها وتشريحها…وسيحكي كيف هرب من درس التشريح، بحجة الإقياء والغثيان من رائحة المواد الحافظة للجثث…
سأعترف الآن أنني نجحت في ذلك العام بمادة الرياضيات الحديثة بعلامة جيدة ومن المرّة الأولى…وسأعترف أنني نكثت بتعهدي بإعادة الكتاب إلى المستودع لتتمَّ الاستفادة منه من قبل أحد الطلاب المحتاجين…
مازال كتاب الرياضيات الحديثة في مكتبتي حتى اليوم، وهو يحمل اسم فايد ملاك بخط يده، يدُه التي أرسلت مع جثته إلى طاولة التشريح في كلية الطب، كما يجري عادة مع جثث المجرمين المجهولين الذين لا يُطالب أحد بجثثهم…
كان ذلك في عهد سوريا الأسد الأب…أما اليوم في عهد سوريا الأسد الابن، الطبيب، فقد تكفّل “الشّبِّيحة” بتشريح جثث الشهداء في الشوارع…وبتلذّذ كامل…لمحض التلذّذ الكامل، وليس من أجل تعلُّم الطب بتشريحها…
لينخدع من يشاء بهذا النظام…أما أنا فعندي كتاب فايد ملاك وعليه اسمه بخط يده التي انتهت في محرقة “مشفى حلب الجامعي” بعد تشريحها كَيَدِ مجرم مجهول…
——————————-
تعليقان
محزن جدا
لا كلام
اللغة سلسلة وتخلو من اخطاء تعبيرية او املائية (لكن الاسم بالانجليزية)
يا أحرار العالم ويا أحرار فلسطين ساعدونا في كشف إجرام هذا النظام!!