بقلم نبراس شحيّد (راهب يسوعي من سوريا)
—————————————————
لا يقدم هذا المقال تحليلاً سياسياً لما يجري في سوريا، بل يحاول تنحية رأي صاحبه في هذا الخصوص ليرسم قدر استطاعته ملامح شكلٍ جديدٍ للحقيقة الإنسانية قد يتفق عليها الموالي والمعارض.
يعيش الشارع السوري اليوم تأزماً عميقاً على مستوى العلاقات الاجتماعية قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة القطيعة بين الأصدقاء أو حتى بين أفراد العائلة الواحدة، فما إن يبتدئ “حوار” بين موالٍ ومعارض حتى تنقلب الكلمات صراخاً والحجة تخويناً.
في جوٍّ من تبادل التهم، يعرض الطرف الأول ما تيسر من الأفلام التي تلتقطها أجهزة الخليوي لتصوّر همجية من ينهشون لحم إخوانهم، فيبسط الطرف الآخر روايات عدة عن “العصابات المسلحة”، ويصل النقاش إلى طريق مسدود.
ليست الحرب الإعلامية هنا محض تضارب في وجهات النظر، أو مجرد “تواطؤ” البعض مع هذا الطرف أو ذاك، بل هي قبل كل شيء أزمة حقيقة، فخلف المحنة الاجتماعية التي نمر بها اليوم يقبع نموذجٌ معرفيّ كلاسيكي عن الحقيقة، تُقارَب فيه على أنها شكل من أشكال التطابق بين الواقع وفهمنا له، تالياً تُختصر الحقيقة إلى صحة المعلومة. المشكلة هنا متعددة الوجه، فالمعلومة أولاً مشوّهة لأن الإعلام الرسمي، المدافع الشرس عن النظام، يحظى بالحق الحصري في نقل “ما يجري”، وتالياً تشويهه. ثانياً، لا تشكل المعلومة في كثير من الأحيان غايتنا، بل محض وسيلة نستعملها لتبرير موقف مسبق، أو للدفاع عن هوية إيديولوجية أو دينية تعتبر ذاتها مهددة. فالموالي بشكلٍ عام، كما اعترف لي البعض، “لا يريد أن يصدق أن في إمكان حكومته الممانِعة أن تجرَّم إلى هذه الدرجة”، ولا يريد من يشعر نفسه مهدداً أن “يتخلى عمّن يحميه”؛ في المقابل، يخوّن معارضٌ مندفعٌ كلَّ من لا يتفق معهم في وجهة النظر! في أجواءٍ كهذه، تنقلب “الحقيقة” نفياً للآخرية، والحوار صراعاً، والمختلف خائناً. تحت اسم “الحقيقة” إذن يستتر ضدُها: العنف لا الخطأ!
في ظل هذا الواقع، لا بد لنا من تفكيك ضرورة ارتباط الحقيقة بصحة المعلومة، لكن من دون أن نتخلى عن ضرورة الحقيقة أو عن أهمية المعلومة، وإلاّ تساوى القاتل والمقتول! بمعنىً آخر، لا بد للمجتمع السوري اليوم في نضاله ضد ما يمارَس في حقه من قمعٍ وقتلٍ ونهبٍ وكذب، من انتاج نموذج جديد عن الحقيقة يتجاوز النتائج المدمرة التي قد يتسبب بها تطبيق النموذج المعرفي على الصعيد الاجتماعي؛ نموذج لا يختزل إلى “صحة المعلومة”، بل يتأسس كطريقة حياة. بكلماتٍ أخرى: لا بد لنا من إخصاب سعينا وراء المعلومة ببحثٍ عن نوعية حياة جديدة تسمح لنا بأن نكون معاً.
وبما أن جلّ ما يميّز الحياة هو التخبّط، لا يمكن الحقيقة عندما نفهما كحالةٍ وجودية هنا من أن تبقى نهاية مطافٍ ما، بل تصير المطاف ذاته. بمعنىً آخر تتحدد الحقيقة كبحث عن “الحقيقة”، تالياً كحالةٍ من التيه. لا نرى جيداً إلى أين نذهب، على الرغم مما نعرفه عن هوية جلادنا، لكننا نبغي النور. يتدافع المتظاهرون بحثاً عن وطن مخطوف، يتجمّع الشباب هامسين في المقهى بحثاً عن كرامة مهرقة، يتساقط الآلاف برصاص الأمن بحثاً عن حرية شريدة، ينتزع الشبّيحة حناجر صادحة ويقطعون أجساد أطفالنا. لكن وعلى الرغم من ذلك، وبغض النظر عن موقفي الشخصي الذي يرى في النظام السوري نكراناً للحقيقة، لا بد أن أعترف بحضور آخرين يؤمنون به ويترقبون إصلاحاً يبدو لي سراباً، لكنهم موجودون، ومن واجبي احترامهم! هؤلاء يبحثون وهؤلاء يبحثون، فأين الحقيقة؟
مع مقاربة الحقيقة كحالةٍ وجودية، تتجاوز هذه، بسبب ما تحمله من تيهٍ وضبابية، منطق التوكيد المطلق الجامد، لتصبح من جهةٍ أولى توكيداً ابداعياً قادراً على خلق نماذج جديدةٍ لا يكرر فيها السوريون الموروث البالي، ولتتجلى من جهةٍ ثانية كحالةٍ نفيٍ ترسم لنا ما لا يمكن أن يكون حقيقياً، فتُنتج ما يمكن أن نسميه بثقافة الخطوط الحمر: رفض قمع أيٍّ كان، حتى ولو كان عدواً، والاحتكام إلى العدالة لا إلى الانتقام. قد يبدو الكلام “أفلاطونياً” لكن لا مفر، وإلا كرهٌ ثم قتلٌ ثم شيءٌ باسم لا شيء. نحن باقون لكن الأنظمة أياً يكن، إلى زوال، فلا بد لنا من أن نجد سبيلاً حتى نكون معاً. إن كنتُ من المعارضين فعليَّ الاعتراف بهشاشة المعارضة على المستوى السياسي، والعمل بحسب إمكاناتي على تجاوز محدوديتها الراهنة. وإن كنتُ من الموالين، فأنا مدعو إلى أن أعترف على الأقل بالفساد والقمع الوحشي المتفشي في الجسد السوري منذ عقود وبمسؤولية النظام الكاملة عن هذا الواقع، وإلا فأنا عدوّ للحقيقة. من كان من الموالين في الحقيقة لا يمكن أن يبرر إبادة المتظاهرين، ومن كان من المعارضين في الحقيقة لا يمكن أن يرمي المختلفين عنه بالبيض والطماطم في القاهرة! الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تجمعنا هي البحث عن وطن شريف؛ بحثٌ لا إملاء، تطلعٌ لا حنين. الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تجمعنا هي مساءلة مستمرة للذات بكل ما يحمله السؤال من قلق ودهشة.
لا بد لنا، بغية الحفاظ على وحدة شعبنا، من بناء ثقافة حقيقة جديدة تميّز بين الموقف السياسي والقيمة الإنسانية محترمةً الخطوط الحمر، وإلا صار الإنسان فكرة. من كان في الحقيقة لا يمكن أن يعيش في وهم المطلق بل في بساطة من يستطيع أن يرى ما في الحلم من حقيقة. من كان في الحقيقة لا يقدّس شخصاً أو حزباً أو موروثاً بالياً. من كان في الحقيقة لا يخاف من أن يعيد حساباته فيعترف بما له وبما عليه. من كان في الحقيقة لا يمكن أن يدافع عن قاتل، وإن لم يقتنع بالمشروع البديل. من يكون في الحقيقة لا بد له أن يبحث، ويتيه، ويتعثر، ويبكي، ويصبو إلى النور.