مصطفى أبازيد
——————–
عبر التاريخ حاصر االطغاة المدن . تحدوا أهلها و تاريخهم . تحدوا رائحة أجسادهم . و ذكرياتهم . حاولوا تهديم أسوارها التي ترفضهم . و حرق كل غصن أخضر أوحى لهم بالطاقة و التجدد و الميلاد و البعث. دخلوا البيوت التي حفظت جدرانها ضحكات ساكنيها و حضنتهم في برد الشتاء حول نار ما زالت تردد صدى سهراتهم و أغانيهم، عبثوا بغرف فتاة تذكر مرآتها كم تزينت لليلة عرسها . و ألعاب صبي يلخص الخليقة و يجسد الخير و الشر في دمى محشوة بالقطن .
يسمع الأطفال خطى الجند الثقيلة تتسلل إلى طهارة أحلامهم . و رصاص بندقية يخترق سرب العصافير التي تودّع الشمس قبل الغروب و تغني لها أغنية لتنام بهدوء .
يسأل الطفل أباه . ترى لماذا تسهر الجيوش الجرارة في مدنيتنا . من ماذا يخافون ؟ . فيجيب الوالد : انهم خائفون لأننا ما عدنا نخاف . فيفهم الطفل حكاية الحاكم الظالم الذي يعيش على جماجم شعبه و ارتجاف أضلعهم .
تعود إلى ذهن الأب ذكريات الخوف و حكاياته مع غرف الرعب و حكايا الجيران عن اعتقالات و قتل و تعذيب و تنكيل لكل انسان تسوّل له نفسه التفكير . و يراوده سؤال طالما كتمه في صدره . كم خطير هو هذا العقل الذي نملك حتى تنشئ الدولة كل هذه الأفرع الأمنية و تزرع الجواسيس على فراش الزوجية و المطابخ و الحمامات، لكي لا نستعمله ؟
نعم يا بني انهم يحاصرون المدن لكي يعيدوا لنا الخوف الذي دفناه في المقبرة مذ صرخت حناجر أبناء المدينة حين تمردوا على القوة التي سقطت بوجه العقل فكانت تلك القوة فزاعة محشوة بقطن تماماً كألعابك كنا نخشاها دون ان نلمسها و نخبئ أفكارنا و ندفنها كي لا تراها .
فتسائل الولد : و هل يستطيعون اعادة الميّت – الخوف – من المقبرة ؟
يجيب الأب : كلا يا بني . فنحن من كنّا أمواتاً و بعثنا من جديد لأن الخوف مات فينا . و هم من كانوا أحيائاً و سيدفنون لأن الخوف ولد فيهم .
عبر التاريخ حاصر الطغاة المدن . و اندثر الطغاة وبقيت المدن …