سعاد يوسف
—————–
الوضع اليوم في حمص هادئ نسبياً… أصوات رصاص متقطعة تسمع بين الحين والآخر… المدينة شبه خالية، وأغلب المحلات مغلقة وقد أعلنت العصيان المدني كاتبة ذلك على واجهاتها…
وصلنا منزل “أبو عامر”… ترجلنا من السيارة ودخلنا المنزل بسرعة بحثاً عن بعض الدفء، فالطقس في حمص بارد، أكثر مما هو في دمشق… أخذتني منى إلى غرفتها… غرفة باردة، لا طاولة ولا كراسٍ للجلوس وإنما بضع فرشات على الأرض، وشاشة تلفاز يعرض نشرة أخبار من “الجزيرة”… غرفة باردة تدفئها ابتسامة “منى” التي رضيت بلقائي كي تحكي لي جانباً مما يحصل في بابا عمرو… جانباً ربما لم ولن نراه على شاشات التلفاز أو حتى على صفحات الثورة.
أحضرت “منى” بعض الأغطية كي نتدفأ، وإبريقاً من الشاي. وجلست تنظر إلي بعيون يمتزج فيها الحزن، والدهشة، والأمل.
بدأنا بالحديث عن الأوضاع بشكل عام. الجميع يعيش حالة من الترقب والتوتر، فكل يوم يحمل حدثاً جديداً… تحدثنا عن الحملة الشرسة التي شنها النظام على حمص في أيام العيد، وعندما سألتها: “وهل كان الوضع في بابا عمرو أسوأ من الأحياء الأخرى في حمص؟”، نظرت إلي بدهشة وسألتني: “وهل تعرفون بابا عمرو في دمشق؟”… كدت أبكي.. ألا تعرف هي أن بابا عمرو أصبحت من أهم رموز الثورة بالنسبة لنا وأننا ننتظر أخبارها كل يوم بفارغ الصبر، والأمل؟ ليتها كانت معنا عندما كنا متحلقين يوم أمس حول شاشة الحاسب، نرقص فرحاً على إيقاع مظاهرة بابا عمرو المسائية… ليتها ترانا ونحن نتناقل أخبار بابا عمرو بكل سعادة، وألم… “اليوم قصف”… “اليوم طلعوا مظاهرة”…
قلت لها: “أنتو رافعين راسنا وراس الثورة”… نظرت إلي بعينين دامعتين وحكت لي عن معاناتهم في أيام الحصار… “الأصعب كان هو قطع الكهرباء لثلاثة عشر يوماً متتاليين، ولم تكن تأتي إلا عند خروج المسيرات المؤيدة في المدن الأخرى كي نشاهدها على التلفاز… الاتصالات أيضاً كانت تقطع أما الماء فلا…” سألتها فيم كانوا يفكرون في تلك الأيام… “عندما نكون تحت القصف نفكر أننا على استعداد للتحالف مع الشيطان في سبيل الخروج مما نحن فيه… نعم فكرنا بالتدخل الخارجي فهو حل بالنسبة لنا… لكن عندما تهدأ الأمور نعود ونفكر ملياً، فليس حلاً أن تعود البلاد 1000 سنة إلى الوراء… لكن ما الحل؟”… كانت توجه السؤال إلي، فانا الفتاة المثقفة المنفتحة القادمة من العاصمة… لا بد أنني أعرف حلاً… حاولت أن أتحاشى النظر في عينيها، فأنا مثلها، لا أملك حلاً، ولا أعرف كيف ومن سيخرج سوريا مما تعانيه الآن… “هيئة التنسيق؟ هي لا تمثلنا… والمجلس الوطني؟ أشعر بأنهم مثل بشار الأسد… وعود وعود ولا شيء يتنفذ، ونحن نموت ونعاني كل يوم وكل لحظة… نحن لا يمثلنا إلا الشارع الذي يخرج ويقدم أرواحه من أجل قضيته…”
قطعت حديثنا أصوات مظاهرة مباشرة على الجزيرة… قالت لي: “أنا لا أخرج من المنزل إلا إلى الجامعة، لا أعرف كثيراً ماذا يحدث في المدن الأخرى… أتواصل قليلاً مع صديقاتي، منهن المسيحيات والعلويات اللواتي لم تنقطع علاقاتنا معهن… الكثير منهن يتصلن بي للاطمئنان علينا في أوقات الحصار… ما يحصل الآن لم يفرقنا رغم اختلاف مواقفنا السياسية”… “ألا تحسين بأية مشكلة في التعاطي معهن؟”… “مشكلة؟ على الإطلاق… نحن نعلم أن مشكلتنا هي مع النظام وأتباعه، وليست مع طائفة بعينها”…
يا إلهي… أين هو العالم ليسمع؟ أين هم الشباب في دمشق، وغيرها؟ فليأتوا ويشاهدوا حمص، فليشاهدوا بابا عمرو، قلب الثورة، وهي تتقد وطنية، وليست فيها ذرة واحدة من الطائفية…
سألتني: “وأنت، كيف ترين الوضع في دمشق؟ هل تخرجون في مظاهرات؟ كيف هو حال الناس؟ فيم تتحدثون؟”… لم أعرف أين يمكن لي أن أختبأ في تلك الغرفة الصغيرة الباردة، هرباً من الإجابة. فماذا لي أن اقول لها؟ “نعم نحن نخرج على قدر ما نستطيع ونفعل كل ما في مقدونا فعله”… “أنت تخرجين في المظاهرات؟ الله يحميكي… أنا خرجت في ثلاث مظاهرات نسائية هنا في بابا عمرو” وأخرجت هاتفها لتريني صورة لها في إحدى المظاهرات: “آسفة لأن مظهري يبدو كسلفية في الصورة، فنحن نضع غطاء على وجهنا إضافة إلى الغطاء على الرأس والنظارات الشمسية” ضحكت وقلت لها: “ونحن في دمشق نبدو في المظاهرات بالمظهر نفسه تماماً”… تعالت ضحكاتنا، الغرفة أصبحت فجأة دافئة، حارة، جميلة، صوت الرصاص لم أعد أسمعه، وأحسست أنني أستطيع أن أموت هنا… في حمص… في بابا عمرو… في بيت منى، مع منى وإلى جانب أهلها وأهل بابا عمرو جميعهم…
مرت حوالي ثلاث ساعات، وجاء رفاق الرحلة ليعلنوا أنه قد حان وقت الرحيل، فقد بدأت الشمس بالمغيب، وبعد قليل قد يصبح الخروج من حمص متعذراً… ودعت منى بعناق حار، ودعت أمها وأباها وإخوتها، ومضينا عائدين إلى دمشق في شوارع معتمة، كئيبة، شبه خالية، وأصوات الرصاص الذي لا يهدأ… وجه منى وصوتها لن يفارقا ذاكرتي، وصورتها هي وأهلها وهم يودعوننا ستبقى محفورة داخل قلبي… أنا على يقين أنه لو كان المسيح معنا، لانحنى على ركبتيه أمامهم وغسل لهم أقدامهم…
*جريدة سوريتنا