سعاد يوسف
“أيام اللولو منسيمها هديك الأيام”… لمعت عيناه حينها… ربما لم يكن يراني ولم تكن روحه معي في تلك اللحظات، فقد عادت به إلى ذلك الشارع وهو يستذكر ذلك اليوم الجميل والمؤلم… يوم لن يمحى من ذاكرته حتى يموت.
“صدقيني كنا أكتر من 10 آلاف متظاهر… ما كان فيكي تعرفي أول المظاهرة وين وآخرها وين
وابتسم ابتسامته الطفولية المليئة بحزن لا يليق بها، وأكمل الحديث:
“كنت أنا في الصف الثالث… أخي كان في الصف الأول متقدماً الجميع… كنا جميعاً نعتمر قبعات بيضاء كتبنا عليها بألوان مختلفة عبارات مثل حرية… سلمية… وبعضنا كان يحمل مظلات زهرية اللون.
في اليوم السايق خطرت ببال أخي فكرة، وفوجئنا به يعود إلى المنزل حاملاً المئات من ورود الجوري الحمراء… “لم لا نوزعها على عناصر الأمن؟ علينا أن نصر على إيصال فكرتنا لهم وبمختلف الطرق: نحن أخوة، وهذا النظام لن يفرقنا مهما بلغت قوته ومهما حاول ذلك”.
وفعلاً، وزعنا الورود على المتظاهرين في الصفوف الأولى عند خروجنا من الجامع، ومشينا في المظاهرة. هتفنا كثيراً ولوحنا بالورود الحمراء، وعندما وصلنا إلى الحاجز الأمني الذي يقع إلى جانب بيتي، وقفنا. تقدم أخي حاملاً وردته الحمراء ومد يده إلى عنصر الأمن الأقرب إليه… في نفس اللحظة سمعنا أمراً من الضابط الواقف وراء العناصر بالاستعداد، وبدأ إطلاق النار في الهواء وسط ذهول الجميع”.
نظر إلي بألم وقال: “عنجد ما حدا مننا استوعب أو خطر على بالو أنو رح يقوصوا”…
تنهد، لمحت دمعة تحاول إيجاد طريقها للانهمار من عينيه، لكنه تابع وهو يتحاشى النظر إلي: “إلى حانبي كان يقف صديق لي أعرفه منذ المرحلة الابتدائية. لم تحتج الرصاصة أكثر من جزء من الثانية كي تجعله يهوي أرضاً. نظرت إليه، اعتقدت أنه وقع ليس إلا. لكن عندما رأيته وقد سقط وسط بحيرة من الدماء وعرفت أن الرصاصة قد اخترقت رأسه لتخرج من الجهة المقابلة، لا لم أفهم حينها ما حصل والكل ركض باتجاهنا كي يحملوه، لكننا بعد ثوانٍ عرفنا أنه ما من أمل، وبدأنا الركض والاختباء في الحارات الجانبية تحت وابل الرصاص.
أتعرفين؟ من أجمل الأحاسيس في الحياة الركض تحت الرصاص، فبين الموت والحياة حينها زمن لا يتجاوز زمن تنهيدة صغيرة، أو إغماضة عين سريعة… ومن أكثر لحظات حياتي جمالاً، وألماً، تلك اللحظة التي أتشاهد فيها بيني وبين نفسي “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله” وأركض كي أعبر الطريق من جهة إلى أخرى والرصاص يمر فوق رأسي وقلبي يكاد يتوقف من شدة الخفقان.
أكثر من عشر شهداء في ذلك اليوم، البيوت امتلأت بمئات الجرحى والأطباء بقوا لساعات متواصلة يقدمون كل ما يستطيعون تقديمه…
نحن لم نفعل شيئاً يومها سوى أننا قدمنا لهم الورود الحمراء… أتساءل أحياناً هل كان علينا أن نشتري ورداً أبيض بدلاً عنه؟؟؟”
جريدة سوريتنا
تعليق واحد
تنبيه: من ذكريات الثورة – جمعة العشائر – القابون « qaboon