——————–
واجه الأسد مشكلة انعدام الشرعية لدى نظامه ، فهو حين وقع اتفاقية فصل القوات مع إسرائيل التزم بعدم مقاومة أو إزعاج الدولة العبرية ، فكيف لنظام استمد شرعيته من مقاومة المشروع الصهيوني والامبريالي أن يلتزم بعدم المقاومة ! ؟
الأسد كان يدرك أن الخطر الأكبر على نظامه كان، وقتها ، يتأتى من “تعامله” مع العدو وتهاونه عن تحرير الأرض السورية المحتلة. هذا يفسر اعتماد اﻷسد خطاباً مغرقاً في القومية ومقاوماً لفظياً دون التجرؤ على الانتقال لمقاومة فعلية سوف تنهي حكمه.
الأسد الذي حارب الفلسطينيين في سورية قدم لهم جهاراً في لبنان كل الدعم الذي كانوا يحتاجونه لدرجة جعلت من المنظمات الفلسطينية الطرف الأقوى في بلاد الأرز ، بمباركة سوفييتية. هذا الوضع أغضب المسيحيين في لبنان خاصة حين تحالف الفلسطينيون مع القوى التقدمية واليسارية اللبنانية. اﻷسد كان يدرك أن تقوية الفلسطينيين في لبنان سوف تؤدي لنتيجة مشابهة لما حصل في الأردن من غياب القانون ونشوء “فتح لاند” وسوف يشعل شرارة حرب أهلية في لبنان سوف تفتح له نافذة فرص لا يستهان بها.
في 13 نيسان 1975 حدثت مجزرة راح ضحيتها حوالي 27 شابا فلسطينيا كانوا في رحلة دراسية وقتلوا لدى عبور الباص الذي كانوا يستقلونه لحي الكرنتينا المسيحي. هذه المجزرة الشنيعة جاءت رداً على محاولة اغتيال الشيخ “بيير الجميل” رئيس حزب الكتائب قبل أيام والتي اتهم بها الفلسطينيون.
ميزان القوى كان يميل بشدة لصالح الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين أصدقاء السوفييت والفرصة كانت ذهبية لكل هؤلاء ، فالمسيحيون هم من باشروا الأعمال “العدائية ” بشكل إجرامي وفج والفلسطينيون لديهم غطاء لبناني متين عبر تحالفهم مع قوى اليسار إضافة إلى مساندة عربية وشرقية واسعة لقضيتهم. السوفييت فركوا أيديهم فرحاً وهم يرون حلفاءهم يجتاحون المعاقل المسيحية والمحافظة الواحد تلو الآخر. الفلسطينيون اقتنعوا أن “اللقمة وصلت لفمهم ” فهاهم على وشك تحويل لبنان لفيتنام شمالية ثانية ، وسوف يلعبون دور الفيتكونغ الذين حرروا لتوهم فيتنام الجنوبية من الأمريكيين. بيروت سوف تصبح “هانوي” و”عرفات” رأى نفسه في موقع “هو شي منه”.
في حرب الأنصار المفتوحة التي كان سيشنها الفلسطينيون ضد إسرائيل وأمريكا من ورائها سيتكلف الإسرائيليون الكثير وسوف لن يجديهم سلاحهم النووي فلن تكون في لبنان دولة مستقلة قادرة على الضغط على الفلسطينيين ليوقفوا حربهم. حتى لو استعملت إسرائيل سلاح تدمير شامل فلن تتوقف المعارك ولن يتوقف الفلسطينيون عن محاولة تحرير أرضهم حتى لو دمرت عدة مدن لبنانية.
بحسب المخطط اليساري الفلسطيني كان دخول إسرائيل على خط المعارك متوقعاً بل ومنتظراً فهو الهدف اﻷسمى “للانقلاب” الفلسطيني. حتى لو احتلت إسرائيل معظم لبنان ، فالبلد سيصبح مقبرة لجنودها و سوف يستمر الفلسطينيون في تلقي الدعم عبر الحدود السورية من “نظام البعث المقاوم ” في دمشق المدعوم سوفييتياً والذي “ربما سينتهز الفرصة لتحرير الجولان” حين تكون إسرائيل غارقة في المستنقع اللبناني….
نفس المخطط كان مطروحاً في المملكة اﻷردنية عام 1970، لكن غياب الدعم الداخلي للفلسطينيين هناك والهزيمة المذلة للقوات السورية التي دخلت اﻷردن ﻹنقاذهم ، مع حنكة الملك حسين ودهائه ، ٳضافة ٳلى غياب الاستراتيجية الفعالة لدى الفلسطينيين و تشرذمهم وممارساتهم الخاطئة ، كل هذا أعاق تحويل اﻷردن ٳلى دولة فلسطينية تحت حكم فتح تدير حربا أنصار مفتوحة مع ٳسرائيل و ظهيرها اﻷمريكي، مستندة ٳلى دعم أنظمة “ثورجية ” شقيقة في العراق وسوريا ومن ورائهم حلف “وارسو”.
سيناريو يطابق في كثير من تفاصيله ما حدث في جنوب شرق آسيا وانتهى ٳلى طرد اﻷمريكيين من هناك. فكرة “المستنقع” الذي سيغرق العدو في أوحاله هي في اﻷساس من ضمن العقيدة السوفييتية. هذه العقيدة التي جاء مقتلها من المستنقع اﻷفغاني !
الفلسطينيون قاموا بتحسين استراتيجيتهم هذه المرة في لبنان فاندمجوا في المعادلات السياسية اللبنانية وتواصلوا بفعالية مع لاعبين أساسيين على الساحة الداخلية لدرجة تشكيل “جبهة مشتركة ” مع القوى التقدمية واليسارية التي وجدت نفسها متورطة في “لعبة أمم ” أكبر من الملعب الداخلي اللبناني.
شرارة الكرنتينا في نيسان 1975 كانت ٳشارة الانطلاق للمواجهة الكبرى مع القوات اللبنانية القليلة التسليح وعديمة الخبرة والتي تم سحقها سريعاً، مثلما يفعل اﻷسد الصغير اليوم مع معارضيه العزل أو شبه العزل. هذا الوضع كان أشبه ” باستدعاء ” التدخل الخارجي، اﻹسرائيلي حصراً ﻷن أمريكا التي خرجت لتوها من المستنقع الفيتنامي لم تكن في وارد الوقوع في “مطب ” جديد. ٳسرائيل كانت ستكون مضطرة للتدخل ﻷنها تدرك أنها هي المستهدفة بشكل غير مباشر وأن الصراع الحقيقي سيكون معها في آخر اﻷمر.
لكن اﻷسد سوف يهب لنجدة “العدو ” اﻹسرائيلي وﻹخراجه من ورطته وسيقاتل الفلسطينيين بدل ٳسرائيل.
الضربة التي جاءتهم من جانب الحليف السوري “الشقيق ” كانت غير محسوبة على اﻹطلاق.
الملفت للنظر هو أن اﻷسد فور تأكده من “نزع أنياب” المقاومة الفلسطينية ، “انقلب” على ٳسرائيل وصار يحاربها بالواسطة عبر مقاومة فلسطينية ضعيفة ومشرذمة. انتهى اﻷمر ٳلى سيطرة اﻷسد على القرارين الفلسطيني واللبناني وتسخيرهما لخدمة استراتيجيته في حرب الواسطة، خاصة بعد مجازر “تل الزعتر” وغيرها.
هدف الحرب بالواسطة هو تجنب المواجهة النووية المدمرة للجميع بين العملاقين الذين تحاربا عبر مواجهات محدودة بين أطراف إقليمية.
دون الدخول في متاهات أخلاقية أو لا أخلاقية الاستراتيجية الفلسطينية والسوفييتية وفي تضحيتها بلبنان وشعبه لصالح أهداف تندرج في ٳطار الحرب الباردة التي سيخسرها السوفييت ، لنلاحظ أن اﻷسد استل خنجره هذه المرة ليطعن المقاومة الفلسطينية و الحليف السوفييتي في الظهر.
—————————————————–
المصدر هنا
تعليق واحد
مع احترامي الشديد لكل ما قمت به من جهود بكتابة هذه السلسلة الشيقة، أود لفت نظرك إلى مغالطة بخصوص حادثة بوسطة عين الرمانة و اللتي أشرت إليها ب “حادثة الكرنتينا” ماحدث يوم الأحد ١٣ نيسان ١٩٧٥ و كان شرارة بداية الحرب هو مرور باص لمسلحين فلسطينيين تابعين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في حي عين الرمانة المسيحي بوسط بيروت مما دفع بالكتاءبيين لإطلاق النار عليهم و قتلهم. قبيل هذه الحادثة و في نفس اليوم تعرض الشيخ بيير لإطلاق نار من قبل الفلسطينيين قتل على أثره ٤ من مرافقيه من بينهم جوزيف أبو فاضل.
لاحقا بعد أن بدأت الحرب تعرض الشيخ بيير لمحاولة إغتيال قتل على اثرها مرافقه الشخصي، و كان مصدر النار من جهة الكرنتينا، مما دفع بحزب الكتائب للهجوم على المنطقة و تتطهيرها. و شكرا جزيلا لجهودك في كتابة هذه السلسلة الشيقة.
Sky