فهم اﻹسرائيليون أن اﻷسد قادر على أن يؤدي لهم خدمات خارج ٳطار اتفاق الفصل المشؤوم في الجولان ولكن لكل شيء ثمنه. اﻷسد يريد تأبيد حكمه للشام وسيطرته على مقدرات الشعب السوري قبل كل شيء. لكن سوريا تبقى دولة فقيرة بالموارد الطبيعية وليست كالعراق أو ليبيا حيث استطاع مهووسان هما صدام والقذافي التحكم بموارد مالية ضخمة تسمح لهما بالٳثراء وبمنح العطايا واﻷموال لحاشيتهما في نفس الوقت.
اﻷسد وضع يده على عوائد النفط السوري وهذا بالكاد يسد شهيته هو وعائلته “الصغيرة” دون أن يسمح بتأمين موارد كافية لضمان ولاء زبانية اﻷسد وأولهم أخوه و زعران سرايا الدفاع يليهم باقي أركان نظام اﻷسد. المزرعة اللبنانية أصبحت ضرورة استراتيجية لبقاء نظام اﻷسد المستند على دعامتين : القمع والنهب المقونن في الداخل السوري بحيث يشبع الذئب وبعض حواشيه دون أن يفنى كل الغنم ، والنهب غير المحدود والخدمات المدفوعة الثمن في الخارج بما يشبع قطيع الضباع المحيط باﻷسد بما تيسر.
دخول ٳسرائيل على الخط بعنف ودون تنسيق مسبق مع اﻷسد أدى ٳلى خلط أوراق اﻷخير الذي سعى جاهداً الحصول على صفقة مع ٳسرائيل تسمح له بالبقاء في لبنان.في النهاية رأينا كيف اضطرت ٳسرائيل وشارون شخصياً للتعامل مع اﻷسد وزبانيته اللبنانيين وعلى رأسهم “ايلي حبيقة ” رجل المهام القذرة و”زلمة ” اﻷسد اﻷول بين المسيحيين في لبنان والذي ” نظّف ” مخيمي صبرا وشاتيلا.
“ايلي حبيقة ” اجتمع عشية اغتيال بشير الجميل برافي ايتان رئيس أركان الجيش اﻹسرائيلي الذي نقل له طلب ٳسرائيل استغلال اغتيال بشير للدخول ٳلى بيروت وفي نفس الوقت “تنظيف ” المخيمات الفلسطينية التي بقي فيها “ألفا مسلح ” فلسطيني. حبيقة طلب مهلة 24 ساعة لجمع رجاله الآتين من الكتائب ومن جيش لبنان الجنوبي وآخرين. شارون أعطى شخصياً الضوء اﻷخضر لهؤلاء القتلة كي يدخلوا مخيمي صبرا و شاتيلا في 16 أيلول 1982 وتوجه ٳلى نقطة مراقبة تسمح له برؤية ما يدور في المحاور الرئيسة للمخيم “دون رؤية ما يدور في اﻷزقة الصغيرة” على ما زعم شارون أمام لجنة التحقيق.
الجيش اﻹسرائيلي دخل بيروت رغم التزامه بعدم احتلالها في نفس الوقت الذي دخلت فيه عصابات “حبيقة” ٳلى المخيمات بحماية الجيش اﻹسرائيلي ومستفيدة من قنابل مضيئة استخدمها الصهاينة لتسهيل مهمة حبيقة وزبانيته. لم يبال شارون بوجود القوات الدولية في بيروت والتي جاءت لحماية انسحاب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية. هذه القوات كان تعدادها في ذلك الوقت 2000 مقاتل من اﻷمريكيين والفرنسيين واﻹيطاليين.
بالنسبة لشارون، كان واضحاً تماماً ما سيفعله الكتائبيون في المخيمات “تماماً كما فعل جند اﻷسد في حماة”. عرب يقتلون عرباً واﻹسرائيلي يتفرج ويتسلى. المجزرة كان ضحاياها كلهم من الفلسطينيين العزل ٳلا من بضع بنادق قديمة، ووصل عددهم ٳلى ما يقارب 3500 بحسب بعض التقديرات. رغم أن التقارير التي وصلت ٳلى شارون وٳيتان من جنودهم تحدثت عن مذبحة منذ الساعات اﻷولى اكتفى شارون بهز رأسه بلا مبالاة. بعد حوالي 48 ساعة بدأ جنود ٳسرائيليون بالتمرد على أوامر قيادتهم وتدخلوا لوقف المذبحة رغماً عن أنف شارون. بالنسبة للجندي اﻹسرائيلي، عدم ٳطاعة اﻷوامر لا يعني اﻹعدام الميداني بل توجيه المعترض ٳلى المحكمة لمعاقبته.
هكذا توقفت المجزرة حين أطلق الجنود اﻹسرائيليون النار في الهواء وتدخل بعضهم مباشرة لحماية المدنيين الفلسطينين ! هذه النقطة غابت عن شارون الذي اضطر للنزول عند ٳصرار الضباط الصغار الذين وضعوا حداً للقتل. القوات الدولية بقيت على الحياد فلم يكن في مقدورها ولا هي كانت راغبة في مواجهة الجيش اﻹسرائيلي الزاحف وذراعه الكتائبية.
لجنة “كاهانا ” التي شكلتها إسرائيل للتحقيق في مجزرة صبرا و شاتيلا سوف تدين شارون الذي سيخرج من معترك السياسة الداخلية في إسرائيل بين عامي 1983 و 1990 حين سيعود للسياسة أولاً كوزير للإعمار و بعدها كرئيس للوزراء عام 2001.
“شارون” سيحتاج مستقبلاً “لخدمات خاصة ” في لبنان لتصفية صديقه القديم “ايلي حبيقة” الذي كان مستعداً للشهادة ضد “شارون” أمام القضاء البلجيكي. ايلي حبيقة سيموت مع ثلاثة من مرافقيه بنفس الطريقة التي اغتيل بها “سمير قصير” ولكن لأسباب جد مختلفة… فهل القاتل واحد وهل أوفى الأسد الابن “بالتزامات ” الأسد الأب التي تم إبرامها في آب 1982؟
في خريف عام 1982 تغيرت الخريطة اللبنانية على اﻷرض وأصبح لبنان واقعاً تحت سيطرة 30000 جندي ٳسرائيلي غادروا بيروت واستقروا في جنوب لبنان الموسع تاركين العاصمة اللبنانية في عهدة 10000 من الجنود اﻷمريكيين واﻷوربيين وبقي “جند اﻷسد” وعددهم 40000 في شرق وشمال لبنان.
وجود القوات الدولية أصبح مزعجاً ﻹسرائيل ولحليفها المتجدد اﻷسد في مخططهما لتصفية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان بشكل تام كما تعهد اﻷسد لشارون. مع وجود القوات الدولية و مع بقاء لبنان في قلب الاهتمام الدولي كان صعباً على اﻷسد ” تنظيف ” المخيمات الفلسطينية الباقية وسحق الوجود الفلسطيني المزعج ﻹسرائيل في لبنان.
ٳسرائيل من ناحيتها تحركت على جبهتين : اﻷولى وهي اﻷهم كانت “التفاهم ” مع اﻷسد المكلف “تنظيف ” لبنان من منظمة التحرير مقابل توكيله في الشأن اللبناني شمال الليطاني وتركه يستمر في نهب لبنان كالسابق. الجبهة اﻹسرائيلية الثانية كانت مع أمريكا ومع وزير خارجيتها آنذاك “جورج شولتز” وذلك بغرض التوصل ٳلى اتفاقية سلام بين لبنان وٳسرائيل تنهي حالة الحرب بينهما. “جورج شولتز” هو نقيض “كيسنجر” مهندس “فك الاشتباك “. “شولتز” رجل منضبط وأخلاقي يرفض المراوغة ولا يحب منطق العصابات والمافيا وكان وراء غزو نيكاراغوا وٳسقاط زعيمها “نورييغا ” صنو اﻷسد في اللصوصية وفي انعدام اﻷخلاق.
اﻷسد اﻷب وجد نفسه في سباق مع الزمن فاتفاق 17 أيار 1983 كان يقضي بانسحاب كل القوات غير اللبنانية من بلاد اﻷرز بما فيها الجيشين السوري واﻹسرائيلي وقوات منظمة التحرير. اﻷسد خشي من أن تكون القوات الدولية نواة لقوة أممية تضع يدها على لبنان وتخرجه منه مثله مثل قوات فتح. بالنسبة ﻹسرائيل فالنتيجة ستكون واحدة في الحالتين وسترتاح من الهم الفلسطيني في لبنان مع تفضيلها لخيار اﻷسد ﻷنه يؤجل البحث في موضوع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وهو “بيضة القبان ” في كل اتفاق لبناني ٳسرائيلي.
أصدقاء اﻷسد في طهران والذين استفادوا من صلات اﻷسد اﻷمريكية و اﻹسرائيلية للحصول على السلاح اللازم لمواجهة “صدام” وجدوا في اﻷمر فرصة ذهبية للدخول ٳلى المستنقع الشرق أوسطي من باب اﻷسد. “عماد مغنية ” كان رجل المرحلة وهو الذي سيؤسس فيما بعد الجناح العسكري لحزب الله.
الأسد الأب وأصدقاؤه الشيعة والإيرانيون سيعيدون اختراع “حرب التفخيخ ” التي كان أبرع من قام بها هم الفيتكونغ في جنوب فيتنام و مقاتلوا جيش التحرير الايرلندي. اﻷسد وأزلامه سيجعلون حرب السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية ترتقي إلى مستوى مهني غير مسبوق من حيث الكثافة والتركيز ومن حيث انتقاء الأهداف وإشاعة الرعب.
عادة ما تكون هكذا عمليات في متناول الضعفاء الذين يواجهون جيشاً قوياً متفوقاً في العدة والعتاد وتكون وسائلها بدائية ومرتجلة. زبانية الأسد وحزب الله أجادوا فن التفخيخ والتفجير واكتسبوا خبرة واسعة في الحرب عبر السيارات المفخخة وهي خبرة سيدفع الأمريكيون ثمنها غالياً في العراق بعد سنوات.
أول العمليات الكبيرة ستستهدف القوات الدولية وليس الجيش الإسرائيلي ! الجيش اﻹسرائيلي سيواجه أول عملية انتحارية على يد “سناء محيدلي” في التاسع من نيسان 1985.
هدف التفجيرات الانتحارية في بيروت كان إحباط مشاريع التدخل الأممي في لبنان من أجل أن يبقى هذا البلد مزرعة لآل الأسد ولكي يستمر التقاسم الإسرائيلي الأسدي لبلاد الأرز دون إزعاج.
في 23 تشرين الأول 1983 ستدخل شاحنتان تم تفخيخهما بوساطة عناصر من الحرس الثوري الإيراني في مقر للمخابرات السورية وبحماية القوات الخاصة السورية، إلى بيروت الغربية. سيتم تفجير الشاحنتين الانتحاريتين في مراكز تواجد المارينز والقوات الفرنسية التي أتت لحماية عائلات المقاتلين الفلسطينيين ولفصل القوات الإسرائيلية عن المدنيين في بيروت الكبرى. سيقتل 241 أمريكيا و58 فرنسياً وسيرد الفرنسيون بقصف مواقع الحرس الثوري الإيراني في البقاع.
في 14 و 15 كانون الأول 1983 سيقصف الأمريكيون مواقع الجيش السوري في لبنان رداً على إسقاط السوريين لطائرتين أمريكيتين وهم الذين فشلوا في إسقاط ولو طائرة إسرائيلية واحدة في حزيران 1982. في الثامن من شباط 1984 سيقصف الأمريكيون مواقع سورية في البقاع وسيقتل العديد من الضباط والجنود السوريين قبل أن تنسحب القوات الغربية نهائياً من لبنان في آذار 1984.
في هذه الأثناء كانت القوات الفلسطينية المنشقة والتي تأتمر بأوامر الأسد قد حاصرت القوات الموالية لعرفات في طرابلس منذ آب 1983. “ياسر عرفات ” من جهته عاد إلى لبنان في العشرين من أيلول 1983 متنكراً وعبر البحر من قبرص لمنع المنشقين عن منظمة التحرير من مصادرة القرار الفلسطيني.
الأسد سينجح حيث فشلت إسرائيل وسينهي الوجود الفلسطيني المسلح نهائياً هذه المرة بعدما اتعظ بالعلقة التي لقنته إياها إسرائيل في حزيران 1982. عرفات سوف يغادر طرابلس ولبنان نهائياً في العشرين من كانون الأول 1983 على ظهر باخرة يونانية صحبة 4500 مقاتل ولن يعود ٳليهما أبداً.
بالنسبة للأسد، شرط احتفاظه “بالمزرعة” اللبنانية هو سحق المقاومة الفلسطينية في كل أرجاء لبنان. اﻷسد أراد أن يقطع الطريق على أي تدخل خارجي في لبنان لا يكون هو طرفاً فاعلاً فيه. الأسد ربح رهانه و صار رجل إسرائيل الأول في المنطقة.
اتفاق أيار 1983 لن يصمد لعدم وجود من ينفذه بعدما غادر الأمريكيون والأوربيون لبنان وتركوه في عهدة زعران الأسد يفعلون به ما يشاؤون. إسرائيل اعتبرت ، خطأ ، أن مشاكلها في لبنان قد انتهت وأن حلف الجزارين بينها وبين رجلها المفضل، حافظ الأسد، سوف تكون له اليد العليا والوحيدة في المنطقة من الآن فصاعداً.
المشكلة أن أزعراً جديداً دخل إلى الميدان برفقة الأسد. النظام الإيراني لم يرد أن يبقى خارج الوليمة. حزب الله سيكون القناع العربي للذئب الإيراني.
أحمد الشامي
http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
نشرت في العدد الرابع والثلاثون من “حـريـــــــــــــات “، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية، والذي صدر الإثنين 2 نيسان 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue34.pdf