بعد ما حصل في سوريا عموماً و حمص خصوصاً من مجازر عديدة، فقد حاولت أن أفهم الآلية التي ارتُكبت بها كل هذه الفظاعات، و محاولة لفهم الخلفيات التي جاء منها هؤلاء المجرمين.
طبعاً الطريقة الفضلى لفهم ما يحصل الآن هو العودة للحوادث المشابهة التي شهدتها الإنسانية ، و من ثم البحث عن الوسائل التي اتبعها العلماء لمقاربة الموضوع و تحليله و محاولة إنزال النتائج على الواقع السوري الحالي المُعاش.
و لربما كانت الهولوكست (المحرقة) التي أبادت فيها الحكومة النازية بشكل منهجي منظم ما يناهز الستة ملايين يهودي خلال الحرب العالمية الثانية هي أشهر هذه الحوادث ، فقمت بتتبع الدراسات المختلفة التي أجريت لتحليل و استخلاص النتائج من هذه الحادثة، و في إطار استعراضي للدراسات المتنوعة لفت انتباهي دراسة تثير الكثير من الدهشة لمن اطلع عليها و أدرك مكمن الخطورة في نتائجها و كيف يمكن و بكل موضوعية إنزالها على الواقع السوري الحالي.
|
عنوان هذه الدراسة هو (دراسة سلوكية للطاعة) و قد اشتهرت عالمياً باسم الباحث الذي قام بها وهو ستانلي ملغرام، و قد جرت هذه الدراسة في جامعة يال العريقة و ذلك عام 1961 ضمن إطار برنامج قامت به الجامعة كسلسلة تجارب سلوكية اجتماعية.
– التجربة:
يُعطى المتطوع دور الأستاذ بينما يُعطى الممثل المتعاون دور المُتعلم ، ثم يتم الفصل بينهما حيث يمكنهما التواصل دون
رؤية أحدهما للآخر كما يتم إبلاغ المتطوع أن المتعلم يعاني من مشكلة قلبية.
أُعطي “الأستاذ” صدمة كهربائية من مولد الصدمات الكهربائية كعينة لما يُفترض أن يتلقاه المتعلم خلال التجربة،لاحقاً أُعطي الأستاذ أزواج من الكلمات يُفترض بالمتعلم أن يجيب عليها من خلال الضغط على أحد أربع أزرار،إذا كانت الإجابة خاطئة يعطي الأستاذ المتعلم صدمة كهربائية تزداد بمعدل 15 فولت لكل إجابة خاطئة .
اعتقد المشاركون أن المتعلم كان يتلقى صدمة حقيقية، و لكن حقيقةً لم توجد صدمات، فبعد فصل الممثل عن المشارك يقوم الممثل بوصل آلة تسجيل مع المولد الكهربائي و التي تشغل أصوات مسجلة سابقاً مع كل مستوى للصدمات.
و بعد درجة معينة من الارتفاعات يبدأ الممثل بالصراخ في الغرفة المحاذية و بعد الارتفاع المتتالي للصرخات مع التذكير بالحالة القلبية التي يعاني منها الممثل و بعد حد معين من الارتفاع في الفولتاج تتوقف جميع الاستجابات من الممثل.
عند هذه المرحلة أبدى الكثير من المشاركين رغبتهم بإيقاف التجربة و التأكد من سلامة المتعلم، بعضهم الآخر توقف عند 135 فولت و بدأ التساؤل عن الهدف من التجربة، بينما واصل معظمهم عند التأكيد لهم أنهم لا يتحملون أية مسؤولية، انخرط عدد من المشاركين في ضحك هستيري بينما أبدى بعضهم الآخر علامات التوتر الشديد لدى سماع صيحات الألم الصادرة من المتعلم.
إذا عبر أي مشارك في أي مرحلة عن رغبته في إيقاف التجربة، كان يُعطى سلسلة من الأوامر المحرضة على الرتيب التالي:
1- رجاءً استمر
2- التجربة تتطلب منك أن تستمر
3- انه من الأهمية الشديدة أن تستمر
4- ليس لديك خيار آخر يجب أن تستمر
إذا ّأصّر المشارك على التوقف عقب إصدار الأوامر بالتتالي تنتهي التجربة، و إلا تستمر التجربة حتى يقوم المشارك بإعطاء الحد اّلأقصى 450 فولت لثلاث مرات متتالية .
– النتائج :
قبل إجراء التجربة أجرى ملغرام استبياناً للرأي بين علماء النفس في جامعة يال أجمعوا فيه أن نسبة من سيستمر بالتجربة حتى النهاية لن تتجاوز 3%ّ، و لكن النتائج كانت مغايرة حيث أكمل 65%(26 مشارك من 40) من المشاركين الصدمات المميتة الثلاث عند 450 فولت ، على الرغم من أن أغلبهم أظهروا عدم راحتهم و عند مرحلة معينة ترددوا و عرضوا إرجاع النقود و قد تبدت خلال التجربة أشكال عديدة للشدة و التوتر من التعرق إلى الأنين و الارتجاف و عض الشفاه و عض الظافر حتى اللحم و حتى دخول بعضهم في نوب هستيرية و تشنجات.
لقد لخَص ستانلي ملغرام النتائج في مقال شهير بعنوان (أخطار الطاعة)نشره عام 1974:
((ان جوانب الطاعة القانونية و الفلسفية تكتسي أهمية عظيمة و لكنها تشرح بشكل ضئيل كيف يتصرف البشر في مواضع معينة، لقد أجريت في جامعة يال تجربة بسيطة لنعرف إلى أي حد يمكن لشخص عادي أن يسبب الألم لشخص آخر طاعةً لباحث علمي.
لقد انتصرت قوة السلطة على أشد القوانين الأخلاقية الطبيعية في عدم إيذاء الآخرين، و بينما كانت صرخات الألم تقرع أسماع المشاركين في التجربة انتصرت إرادة السلطة.
إن الرغبات الملحة للبالغين بالذهاب إلى أبعد حد طاعةً لرغبات السلطة يمثل النتيجة الرئيسية للتجربة و تحتاج هذه الحقيقة إلى التفسير بشكل عاجل.
إن الأشخاص العاديين الذين و ببساطة يؤدون أعمالهم و دون أي درجة من العدوانية يمكن أن يتحولوا إلى مساهمين في عملية تدمير مرعبة، بالإضافة إلى أنه كلما توضحت التأثيرات المدمرة الناجمة عن أفعالهم و التي تتناقض مع القواعد الثابتة و الأساسية للأخلاق فقد استمروا بالطاعة، قليلون هم الذين يملكون القدرة على رفض الانصياع للأوامر.))
لاحقاً أجرى البروفسور ملغرام و غيره تجارب مشابهة و كانت النتائج متقاربة بغض النظر عن البلد أو الجنس (أظهرت النساء نتائج مشابهة)أو العرق.
و في الفيديو التالي توضيح و تلخيص للتجربة
– التفسير:
فسر البروفسور ملغرام النتائج من خلال إحدى النظريتين:
1- نظرية الامتثال: و تمثل العلاقة الأساسية بين مجموعة من المرجعيات و الشخص، فالفرد الذي لا يملك القدرات أو الخبرات اللازمة لاتخاذ القرارات و خصوصاً في الأزمات سيترك للمجموعة من خلال تراتبيتها اتخاذ قراراته، عندها يكون سلوك المجموعة هو نمط سلوك الفرد.
2- نظرية الدولة الوكيلة: حيث جوهر الطاعة يتشكل عبر رؤية الأفراد لذواتهم كأدوات لتحقيق رغبات أشخاص آخرين، لذلك لا يرون أنفسهم مسئولين عن أفعالهم، و لحظة حصول هذا التحول الحاسم في وجهة نظر الفرد تجاه نفسه و مسؤوليته تتابع كل المظاهر اللاحقة للطاعة.
وقد كان السير C.P. Snow قد لاحظ عام(1961) أنه : عندما تفكر في التاريخ الطويل و القاتم للبشرية فإنك ستجد عدداً هائلاً من الجرائم البشعة المتوحشة تمَ ارتكابها باسم الطاعة، بما لا يمكن إطلاقاً مقارنته بما تمَ ارتكابه باسم الثورة.
إذاً ما الذي يمكن أن نستفيده مما سبق لدى تطبيقه على الحالة السورية؟؟؟؟
من خلال الفهم المتأني لهذه الدراسة نستطيع الحديث عن سلسلة الطاعة خصوصاً في الجيش، حيث الأفراد العاديين المجندين إلزامياً و الذين يمثلون عموم أبناء المجتمع و الذين تعرضوا لمواقف عديدة اضطروا فيها لتنفيذ ما يخالف ضمائرهم و لكنهم نفّذوا الجرائم التي أمروا بها فقط تنفيذاً للأوامر، إنهم أناس عاديون يمتلكون في مواقف الحياة العادية الكثير من الأخلاق التي تمنع كثيراً منهم من أن يؤذوا قطة و لكنهم و ضمن سلسلة الطاعة التي خضعوا لها تحولوا إلى جزارين.
القليل من هؤلاء فقط امتلك القدرة على رفض تنفيذ الأوامر التي كانت ستحولهم إلى مجرمين حيث تغلب الحس الأخلاقي الأصيل و الذي يمتلكونه على غريزة الطاعة لرموز السلطة فكانوا نواة للجيش السوري الحر.
إذاً نختصر الجيش السوري الحر بأنه ضمير الشعب السوري الحي و انه المثال الأخلاقي المنير الذي امتلك أفراده القدرة على الوقوف في وجه طغيان السلطة و الذي كان يعتمد على غريزة الطاعة في تنفيذ جرائمه.
إن هذا الضمير الأخلاقي في صميمه لا يمكن إلا أن يكون الركيزة الحقيقية لبناء الجيش السوري المستقبلي إذا أردنا دولة قائمة على العدالة و الأخلاق، إن كل من يقوم بمحاولة تشويه الصورة الأخلاقية للجيش الحر هو الذي يشكل العدو الرئيسي له، انه صوت الحق و العدل حين يتحدثان بصوت مرتفع كما لم يفعل الحق و العدل منذ نصف قرن.
أما من ناحية ثانية فالدرس المهم الآخر هو (تحديد المسؤولية) إن التعميم حين الحديث عن هذه الفظاعات التي يتم ارتكابها يضر و لا ينفع فالقول أن النظام هو المسؤول عن مجازر تفتناز مثلاً هو صحيح و لكنه يضر و التوصيف المؤثر يكون باتهام أشخاص حقيقيين و ليس اعتباريين، فالأفضل اتهام الكتيبة رقم كذا بقيادة العقيد فلان و مشاركة المقدم فلان و النقيب فلان و تسمية حتى الأفراد الذين تلطخت أياديهم بالدماء بشكل صريح و يجب أن تُنشر أسمائهم عبر الإعلام ليعلم أهلهم و يعلموا هم أنهم قد تحولوا إلى مطلوبين بتهم خطيرة كما يعلم غيرهم أنهم سَيُحاسَبون على ما تقترفه أياديهم، باختصار يجب أن يتأكدوا أنهم يتحملون المسؤولية .
يتبع…………………….
بوركتم وطبتم عسى أن يجعلكم الله من الصالحين و يورثكم الأرض انه عزيز حكيم
____________________________________
A.ALH
المراجع
Yale university publications
Wikipedia, the free encyclopedia
Encyclopedia Britannica
Milgram, Stanley (1974).Obedience to Authority; An experimental View.
تعليقان
قراءة مثيرة للاهتمام .. قرأت بحثا مستفيضا عن صناعة المجازر (في النظام السوري) قام به ممدوح عدوان في كتابه – حيونة الانسان
Reblogged this on Nizar Rammal.