خلال الشهور الماضية عشنا جميعاً أحداثاً عاصفة غيَرت كثيراً من قناعاتنا، و هدمت كثيراً من أصنامنا فكان ما اصطلح على تسميته ((الربيع العربي))، و دخلت مجتمعاتنا العربية حركة حثيثة، و أسهبت الأقلام بالكتابة عن هذه “الأحداث” فكانت بعض الأقلام- تتنازل – لتصف ما حصل بالثورة و بعضها الآخر يصر أن ما حصل و يحصل ليس ثورة و إنما تمرد أو حركة شعبية على الأكثر، فقررت أن أعود للمراجع المتخصصة لأحاول تلخيص ما أجمعت بعض عقول العالم عليه خلال مقاربتها للحديث عن الثورة، ثم أترك للقارئ الكريم أن يحكم بنفسه، فهل نعيش عصر الثورات العربية، أم أن ما يقوله بعض “المثقفين العرب” هو الصحيح أم أنهم يرفضون الاعتراف بالحقيقة فقط لأنهم يكرهونها كالشخص الذي انتظر طفلاً سنين طويلة حتى إذا قُيض له الولد، كرهه لأن لون عينيه أسود و ليس كما كان يرجو أن يكون أزرق العينين ؟
لقد ظلَوا يبشرون بالثورة و بالشعب و بحق الناس بالحرية و التغيير و غيره الكثير، حتى إذا جاء الشعب و استعمل حقه الطبيعي بالاختيار لم يعجبهم ذلك، فالشعب أرعن قصير النظر و ذلك لأن الشعب لم يخترهم و يتبنى أفكارهم و قِس على ذلك …..
تعريف الثورة في العلوم السياسية و الاجتماعية:
هي تغير مفاجئ و أساسي في الحكم و البنى المتعلقة به حيث يكون التغيير بشكل نموذجي عنيفاً، و يستعمل المصطلح أيضاً في سياق مماثل لمعاني شبيهة مثل (الثورة الصناعية)، حيث يشير إلى تغير جذري و عميق في العلاقات الاقتصادية و الظروف التكنولوجية.
وكان يُظن أن فكرة الثورة تعود أساساً لملاحظة أرسطو للتغيرات الدورية في أنماط الحكم، و لكنها تعني اليوم الابتعاد الكامل عن النمط التاريخي السابق، و تشكل الثورة تحدياً للنظام السياسي القائم و إلى تشكل نظام جديد يختلف جذرياً عن النظام السابق، و لم تغير الثورات الكبرى في التاريخ ((و خصوصاً الانكليزية و الفرنسية و الروسية و الصينية)) الحكومات فقط و لكنها غيرت أيضاً النظام الاقتصادي و البنى الاجتماعي و القيم الثقافية في تلك المجتمعات.
و كان يُنظر للثورة عبر التاريخ على أنها موجة مدمرة، حيث اعتقد اليونان القدماء أن الثورة تحصل فقط عبر انحلال القيم الأخلاقية و الدينية الأساسية في المجتمع، و قد اعتقد أفلاطون أن بنياناً راسخاً غنياً من العقائد هو فقط الذي قد يمنع الثورة، و أسهب أرسطو في شرح هذا المصطلح و استنتج أن المجتمع يصبح أكثر عرضة للثورات إذا ضَعُف نظام القيم الناظم للمجتمع، حيث أن أي تغير في العقائد الأساسية يخلق الأرضية لقيام الثورة.
أما الصين و التي تعتبر فلسفتها و غالب أديانها من أكثر النظم محافظة حتى كانت عبادة أرواح الأسلاف الوسيلة التي تحفظ فيها الأسر الحاكمة على امتداد الزمن سلطتها، فقد وجدت ضمن المنظومة الكونفوشية من القيم ما يمكن النظر إليه على أنه دعوة مبطنة للثورة فهل تقرير المبدأ الذي يقره ملوك الصين وأهلها، وهو أن الحاكم الذي يستثير عداوة الشعب يفقد ” حقه الإلهي ” في الحكم، ومن حق الشعب أن يخلعه إلا دعوة الشعب للثورة .
و يمكننا أن نذكر هنا منشيس أهم تلامذة كونفوشيوس حيث كان يعترف بحق الشعوب في الثورة وينادي بهذا المبدأ في حضرة الملوك فمما يروى عنه حديثه مع أحد الملوك الذي أخبره أنه لا يستطيع منع المجاعة فأجابه منشيس بأنه ينبغي له أن يعتزل المُلك، وكان يقول لتلاميذه: “إن الناس أهم عنصر (من عناصر الأمة)؛ .. وإن الملك أقل هذه العناصر شأناً”. وإن من حق الناس أن يخلعوا حكامهم، بل إن من حقهم أن يقتلوهم في بعض الأحايين.”وسأله الملك شوان عن الوزراء العظام … فأجابه منشيس: “إذا كان الملك يرتكب أغلاطاً شنيعة وجب عليهم أن يعارضوه، فإذا لم يستمع إليهم بعد أن يفعلوا هذا مرة بعد مرة، وجب عليهم أن يخلعوه … “.ثم جاءت الثورة الصينية في القرن العشرين لتهدم كل المنظومة المعرفية القديمة و إن أبقت على الإمبراطور و لكن باسم جديد ((ماو تسي )) و عادت الصين مرة ثانية لتعيش الثورة مرة ثانية ((و لكنها ثقافية فقط )) لاحقاً .
أما في الإسلام والإسلام نفسه من أعظم الثورات التي شهدها التاريخ العالمي، إذا كان المقياس هو التغييرات التي قد تحققها حركة ما على مسيرة المجتمع و التاريخ فكان انتشار العقيدة و السيطرة الإسلامية على مساحات شاسعة من العالم الذي كان معروفاً آنذاك، و تغلغلها لتشكيل كل مناحي الحياة للشعوب التي انضوت تحت لوائه، و لكن و كما يفرض التاريخ نفسه دوماً فقد تحولت الثورة إلى نظام كامل و ارتبطت بهذا النظام أفكار كثيرة حولت الفكر السامي الذي يقود التوجه الإسلامي العام إلى مجرد وسيلة (بالإضافة إلى القوة) للسيطرة الكاملة على المجتمع لمصلحة الفئات المسيطرة، و لكن ما يغيب كثيراً عن الأذهان أن مطالعة المصادر الأولى و الجوهرية: الكتاب و السنة، إنما يزكي حجج التيارات الثورية الإسلامية على مشروعية الثورة، بل وجوبها في الإسلام .
إن الفكر الإسلامي المبكر قد انحاز للثورة كوسيلة للتغيير، وذلك عندما كان أعلام هذا الفكر يصدرون عن منابع الدين النقية كالحكم بالشورى و الاختيار، و عندما انتقل الحكم من الشورى إلى الاستبداد و تحول عبر الزمن و تطاول التواريخ إلى نظام عاشه المسلمون و ألفوه،وجد المفكرين الذين يستمدون من واقعهم و تاريخهم المعاش المصادر الكفيلة التي تناهض أي تحرك يقف في وجه الظلم أو يدعو للتغيير.
و نصل إلى أوروبا في العصور الوسطى حيث كان الحفاظ على العقائد و شكل الحكم يحظى بالأولوية، فكان الاهتمام الأكبر ينصب على إيجاد الوسائل لمكافحة الثورة و التغيير في المجتمع، لقد كانت السلطة الدينية قوية جداً و انحصر إيمانها في المحافظة على النظام، بحيث وجهت الناس للقبول بجور القوة، عوضاً عن إزعاج استقرار المجتمع.
و فقط عقب ظهور الإنسانية العلمانية أثناء عصر النهضة، تحول هذا المفهوم الأوروبي للثورة ((كتدنيس للمجتمع)) ليتفق مع منظور أكثر معاصرة، فقد أدرك ميكافللي في القرن السادس عشر أهمية قيام الدولة القادرة على الوقوف بوجه الثورات ، و لكن و في نفس الوقت فان تحليله العميق للسلطة قاده للإيمان بضرورة التغيير في بنى الحكم عند مناسبات معينة. و هذا القبول للتغيير وضعه على الحدود الأمامية للأفكار الثورية الحديثة، على الرغم أنه لم يستعمل كلمة الثورة في كتاباته، و أن جلَ اهتمامه انحصر في خلق دولة ثابتة قوية.
أما جون ملتون (المفكر الانكليزي من القرن السابع عشر) فكان من أوائل المؤمنين بقدرة الثورة الأصيلة الخلاقة التي تمنح المجتمع البصيرة لإدراك إمكاناته، كما نظر للثورة كحق للمجتمع في الدفاع عن نفسه ضد عسف الطغاة، خالقاً نظاماً جديداً يعكس حاجات البشر. بالنسبة لملتون، فالثورة هي السبيل لإكمال الحرية،و لاحقاً في القرن الثامن عشر كانت الثورات الفرنسية و الأمريكية عبارة عن محاولات لحماية الحرية من القيادة المستبدة، أما الثورات الحديثة فقد أدخلت شيئاً من الأفكار الطوباوية كأسس للتغيير.
كما اعتقد كانط في القرن الثامن عشر أن الثورة هي القوة الدافعة لتطور النوع الإنساني، لقد آمن أن الثورة كانت الخطوة الطبيعية لوضع الأساس الأخلاقي للمجتمع، وهي الفكرة التي صاغت أساس الثورتين الأمريكية و الفرنسية.
و بالنسبة لهيغل الذي يعد المحفَز الأساسي على تشكل الأفكار الثورية للقرن العشرين، لقد نظر للثورات كالمصير الطبيعي للإنسانية، كما أن قادة الثورات هم الأدوات الضرورية لتفعيل و إنفاذ التغيير. و كانت هذه الأفكار هي الأرضية للمفكر الأكثر ثوريةً و هو ماركس، الذي استخدم نتائج هيغل كأساس لشرح الصراع الطبقي، المتركز حول القتال للسيطرة على العملية الاقتصادية في المجتمع. انه يعتقد بتتالي المراحل عبر التاريخ البشري و الذي يتوج بسيطرة الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج. إنها الخاتمة لكفاح الإنسان في سبيل الحرية و المجتمع اللا طبقي، عندها تنتفي الحاجة للمزيد من التغييرات السياسية، وكانت هذه الأفكار هي القاعدة للثورات الشيوعية التي انتشرت عبر العالم في القرن العشرين.
و قد قام أحد المؤرخين الحديثين -كرين برينتون- بتحليل توجهات المجتمع قبيل الثورة، لقد شاهد مجتمع قبل الثورة محكوماً بمزيج من التوتر السياسي و الاجتماعي الناتج عن التحطم المتدرج لقيم المجتمع، مما يؤدي لتصدع السلطة السياسية و حين يزداد اعتماد النظام المسيطر على الاستخدام اليائس للعنف كالحل الوحيد للبقاء في الحكم تظهر في نفس الوقت تباشير عناصر الإصلاح التي تعمل فقط للتأكيد على فساد السلطة السياسية. و مع استمرار فقدان النظام القائم لقبضته على السلطة، يزداد الزخم لدى القوى المتعددة المنشقة في المجتمع و التي تشكل الخطر على النظام القائم و يزداد توحدها لتنتهي للإطاحة بالنظام القائم.
كما فصَل برينتون الدرجات المختلفة للثورة الكبرى، فبعد الإطاحة بالنظام السابق تسيطر فترة من المثالية المتفائلة، حيث ينشغل الثوار بالخطب الرنانة التي تنضح بالمثالية و الكمال، و لكن ما أقصر لحظات التفاؤل فواجبات و مشاكل الحكم العملية ينبغي مواجهتها وهنا يبدأ التمايز بين المعتدلين و المتطرفين. و تكون العادة بهزيمة المعتدلين و سيطرة المتطرفين مع تركز كامل للسلطة في أيديهم.
و لكن ليسيطر فريق و يحافظ على هذه السيطرة فمن المحتم استخدام القوة، و تدريجياً تتلاشى أحلام الثورة مع سيطرة نظام شمولي، و على كل حال فبعضٍ من الأهداف الرئيسية للحركة الثورية الأصيلة يتم اعتمادها. وقد اتبعت الثورات الفرنسية و الروسية هذا النمط من التطور، كما حصل ذلك أيضاً للثورة الإيرانية في أواخر القرن المنصرم.
إن حصول ثورة سياسية فقط دون تحولات اجتماعية لا تنحو ليكون لها نفس النمط ما قبل و ما بعد الثورة من تطور الأحداث، إنها باختصار تغيير في السلطة السياسية(كما العديد من الانقلابات العسكرية) أو تمثل تغييراً أوسع في تراكيب القوة و السلطة (كما الثورات الأمريكية و المكسيكية).
ما سبق هو بعض ما استطعت تلخيصه و بيانه لأُطلع القارئ الكريم الى نظر المفكرين الى فكرة الثورة كوسيلة للتغيير، و نقارن ما سبق ببعض ما يكتبه مثقفونا عن الثورات العربية الكبرى التي نعيشها و لتحكموا بأنفسكم هل صدقوا أم كانو من الكاذبين؟؟
بوركتم وطبتم عسى أن يجعلكم الله من الصالحين و يورثكم الأرض انه عزيز حكيم
____________________________________
A.ALH
المراجع
– الاسلام و الثورة – الموسوعة البريطانية – الفلسفات الكبرى
– تشريح الثورة – الموسوعة العربية
– قصة الحضارة – فلسفة الثورة الفرنسية