تفشت في الآونة الأخيرة بين صفوف الشعب السوري ظاهرة غريبة.. كنت أريد أن أقول: بين صفوف أعضاء حزب البعث العربي الإشتراكي، ولكني تذكرت أن كل الشعب السوري قد تم تنسيبه أوتوماتيكياً إلى صفوف الحزب.. جميعنا في الصف العاشر دخلنا إلى ماكينة الـ”تبعيث” مثل علب المورتديللا.. بعثونا واحداً واحداً، ولم ينجُ من بعثهم إلا من رحم ربي.
الظاهرة التي أريد الحديث عنها اليوم هي ظاهرة الـ“بشرنة” بدلاً من التبعيث.. فبينما تم العمل دؤوباً على تبعيث الشعب في أيامنا، يصار اليوم إلى بشرنة الجيل الجديد. وكلمة بشرنة في اللغة المعاصرة تعني تحويل الانتماء البعثي للجيل إلى انتماء بشاري نسبة لبشار الأسد.. ظاهرة غريبة لم نحس بها أيام الأب الراحل.. فلم يكن هناك أحد يدعو مثلاً للـ”حفظنة” أو للـ”رفعتة” أو ما شابه.. كان تبعيث الشعب هو التيار وتحول اليوم إلى بشار
قصة اختزال الوطن في حزب قصة مرعبة.. ولكنها واقع سوري مفهوم بطريقة أو بأخرى: غسيل أدمغة وتعليب للشعب وتشذيب للزوائد الفكرية ووحدة حرية اشتراكية.. أما عملية اختزال الحزب، الذي هو الشعب، كله في شخص واحد فقضية مقززة تدعو إلى الاستنكار ثم إلى التقيؤ.. وتذكر بشكل أو بآخر بهبل أو باللات والعزى.. أصنام الأسد في كل مكان.. صوره في أينما توجهت.. هل هناك من لم يرَ أولئك الساجدين أمام حضرة صورته في عرض الشارع؟ أما خطاباته فكلها تاريخية وقراراته كلها حكيمة.. وما دام ترفيعه قبل سنوات من رتبة عقيد إلى رتبة مشير قد تم في غمضة عين، فما الذي يمنع اليوم من ترفيعه من رتبة رئيس إلى رتبة إله؟
عندما أنهت قوات سرايا الدفاع مهمتها المقدسة وخرجت من مدينة حماه في الثمانينات، ترك أفراد العسكر، وبالإضافة إلى ثلاثين ألف جثة، تركوا على جدران حماه عدة كتابات تذكارية لدخولهم إلى المدينة. ومن جملة ما قرأت كتابة تقول: “لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث”. ولست هنا بمعرض مناقشة هذا الكلام من وجهة نظر دينية، ولكني أريد أن أقول أن المعبود قبل ثلاين سنة كان حزب البعث.. لكن شيء ما جعل هذا البعث يدخل في ماكينة اختزال تشبه القمع الذي نستعمله في المطبخ حتى يتقلص هذا الحزب كله إلى بشار. آلة غريبة ذات فوهة ضيقة وأخرى عريضة، دخل البعث في هذه الفوهة العريضة وخرج من الطرف الآخر الضيق بشار.. شيء مثل “النقاصة” التي نستعملها لحشر فيش كهرباء عريض في بريز ضيق. لست أدري ما اسم هذه الآلة.. سأسميها مبدئياً “قمعاً” إلى أن يردني اسمها الرسمي المعتمد من قبل الحكومة الجديدة أو لجنة الحوار الوطني.
بالأمس عقد وزير الخارجية السوري مؤتراً صحفياً.. وبغض النظر عن أنه كان يردد باستمرار جملة: “أنا أكرر ما يقوله السيد الرئيس” لكنه وعندما سأله أحد الصحفيين فيما إذا كانت سوريا تدخلت في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة. رد المعلم بقوله: “لم يكن الرئيس الأسد في الآونة الأخيرة يملك وقتاً للتدخل في الشأن اللبناني”. وهنا مرة أخرى يختزل وزير الخارجية رسمياً سوريا كلها في شخص، مع أن السؤال لم يكن بالأساس عن شخص، ومرة أخرى يقحم المعلم البلد كله في قمع ليخرج من الطرف الآخر بشار الأسد.
للقمع كما هو معروف طرفان.. طرف عريض وآخر ضيق.. وكما أن الشعب يمكن بشرنته واختزاله عند الرغبة، فمن الممكن أيضاً التحرك باتجاه معاكس و”شعبنة” الرئيس، أي تضخيم ونفخ لشخص بشار الأسد حتى يبلغ حجم الشعب بأكمله. وكما أن عملية البشرنة نزولاً تحتاج قمعاً، فإن عملية النفخ صعوداً تحتاج قمعاً أيضاً.. ولقد رأينا بشار الأسد في المرات الثلاث التي خاطب بها شعبه يستعمل نفس القمع.. فمرة عن طريق مجلس شعبه.. ومرة عن طريق مجلس وزرائه.. وثالثة عن طريق رئاسة جامعته.
لم يستطع بشار الأسد، ولا مرة، أن يقف أمام شعبه مباشرة.. لم يستطع حتى الآن أن ينظر مباشرة في عيون الثكالى والأرامل واليتامى.. في كل مرة كان يتحدث بها، كان يحتاج إلى قمع لتضخيم نفسه ووقع كلماته الهزيلة على الناس.
منصب رئاسة الجمهورية وعلى ما يبدو واسع على السيد بشار الأسد.. ولذلك فهو لا يشغله لوحده، بل يحشر بجانبه أخاه وصهره وخاله و ابن خاله ويحشر زوجته وعمته وأقربائه حتى يملأ المكان الفضفاض الذي ورثه مع جملة ما ورث. لأول مرة في تاريخ الجمهوريات نسمع بمصطلح ” العائلة الحاكمة”.. الكرسي كان وعلى ما يبدو أكبر بكثير مما كان بشار الأسد يظن.. وبالرغم من أنه فرح بهذا الكرسي الكبير عندما جلس عليه لأول مرة، إلا أنه وعلى ما يبدو لم يكن أبداً ليكبر ليناسبه.. ولم يكن في الفترة الماضية يستطيع الحفاظ على توازنه عليه إلا لأن الأرض لم تكن بعد قد تتزلزلت من تحته.. وإلا لأن الشعب انتظر عليه طويلاً قبل أن يفقد اليوم ودفعة واحدة كل صبره المتبقي.
by : orange
.
تعليقان
للاطلاع، مع مجرى هذا المقال
مات الله، عاش القائد
https://www.facebook.com/note.php?note_id=200264686686427
مات الله، عاش القائد
هنالك فرق شاسع ما بين الحق و الامتياز أو الاحتكار.
فرق شاسع ما بين الواجب و المصلحة أو الانتهاز.
فرق شاسع ما بين المشاركة و الوصاية أو الاستعباد.
إن الحق لا يعرف التمييز بين البشر لكنه يفسح مجالاً حراً للإختلاف بينهم، و الإختلاف يعني وجود ذواتٍ حرة و هذا يستلزم منها الاعتراف أن كينونة الوجود معتمدة و متداخلة مع الآخر كذات. و أن يكون آخر، يعني اعترافٌ به، و اعتراف متبادل، و بذلك تكون ذات تُحقُ للآخر ما لها. و بالاعتراف سيكون هنالك فضاء لرغبة كل ذات بأن تسعى للتحقق دون النيل من حرية و رغبة الآخر. و هنا ستكون الرغبة بملئ حريتها مندغمة في الواجب اتجاه الآخر. إذاً هنالك اعتراف و مشاركة.
إن الامتياز و الاحتكار، و المصلحة، و الانتهاز و الوصاية و الاستعباد هم خيلاء أجوف لردم هوة الخواء. و هُم لستر هوة مستحكمة لا يردمها شيء في الأنا التي تنكر الآخر. و لماذا تنكره ؟ لأنه يذكرها بنقصها و دونيتها يذكرها بخوفها المستحكم جراء هوة تنكر على الآخر حريته التي لا تستطيع تلك الأنا أن تكونها. لذا تعمل تلك الأنا على رهن و مصادرة مشيئة الآخر بيدها، لتكون الطفيلي بامتياز عبر إعطاء نفسها حق الوصاية لحجب فشلها في أن تكون أباً أو أماً أو شريكاً أو أخاً أو صديقاً، فشلاً يعكس خوفاً و جبناً تنوس فيه الأنا ما بين شعور بالعظمة و شعور بالاضطهاد.
إنها أنا زورية (بارانويية) فهي لا تبقي على الحياة و اقتسام الخير مع الآخر، إنها تقوى على سلب الحياة. و بهذا السلب فهي تجعل الآخر أضحية لها أي لا يسد جشعها إلا إزاحة الله، و لتأخذ هي صورة القائد، هذه الأنا هي قابيل الأبدي الذي تتغير أفعال قتله حسب الزمان، و في أيامنا هذه المادة الثامنة من دستور سوريا هي ما يتمسك بها قابيل :
« إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة و الأمة و المجتمع »