————————
إن حالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي ليست أمراً طارئاً على العالم وعلى سوريا كجزء من هذا العالم، فقد مرّ البلد بالكثير من المراحل التي كان مطالباً فيها بالانحياز لطرف ما رغم توقيع سوريا على معاهدة عدم الانحياز، ولكن تبيّن فيما بعد أن هذه المنظمة لم تكن يوماً إلا مكرّساً للانحياز كما تبين أن كل أعضائها بلا استثناء منحازون إلى طرف ما أو جهة ما.
يدور حديث طويل في هذه الأيام عن حالة القطبية العالمية التي تتصاعد وتيرتها في العالم على الأرض السورية، وإذا كان لبنان في وقت ما (ولا يزال) مسرحاً لقطبية إقليمية كثر فيها اللاعبون وتعددت الوجوه والأهداف، فإن سوريا على ما يبدو أصبحت (وستصبح) مسرحاً لقطبية من نوع آخر وقياس آخر. فاللاعبون اليوم هم كل القوى العظمى والمتعاظمة والطارئة على العظمة (بالاستعارة من العرب العاربة والمستعربة والمحدثة) وهم اليوم لا يبحثون في كيفية إنقاذ هذا البلد أو تطويره او إعادة إحيائه، فأقطاب العالم لا يهمهم أن ينضم إليهم عضو جديد بعد ما فعل في السابق ما فعل من كوارث إقليمية، كما أنهم لا يبحثون في السر ما يصرّحون به في العلن، واحمرار وجه كلينتون أو غضب جاسم بن جبر وانتفاخ أوداج أوغلو وانفعال وزير خارجية بوتسوانا والذي يبدو أنه أصبح “صديقاً” لسوريا عن طريق الفيس بوك، كل هذه الانفعالات هي تمثيليات سياسية احترف ممثلوها الكذب والنفاق العالميين وهم يعلمون جميعاً خطورة الشعب السوري إذا نال حريته وتسلّم دفة السياسة في المنطقة. ولهذا فإن أعداء وأصدقاء سوريا على السواء لا يبحثون في اجتماعاتهم المغلقة أي أمر يتعلق بسقوط النظام ودعم السوريين، فتجاربهم السابقة في دعم الإنسانية غنية عن التعريف وتبقى شواهد فلسطين والعراق والبوسنة والشيشان ورواندا حية في الضمير العالمي الذي يبكيه اليوم بعض المعارضين وكأن ذاكرتهم القصيرة لا تريد الاعتراف بحقيقة غلبة السياسة على المثل وغلبة المصالح على القيم.
وحال الاستقطاب هذه لا تولّد إلا حالات متفرقة من القطبية داخل الوطن وخارجه، وهكذا يعاد توزيع خرائط الولاء والتابعية في كل حقبة من الزمن وفقاً للمصالح الجديدة والهوى العالمي. واليوم يتم دفع الوضع في سوريا إلى حالة من الاستقطاب غير المسبوق وعلى كل المستويات. فما بين مؤيدين ومعارضين ومحايدين يستمر المسلسل ليصل إلى معادين لروسيا ومؤيدين لها بينما لم يعد المعارضون يرون حلاً سوى لدى الولايات المتحدة رغم وضوح المواقف الأمريكية الفعلية الهشة في مقابل مواقفها الكلامية الصلبة تجاه الثورة في سوريا. وبينما عاش السوريون (ولا يزالون) حالات الاستقطاب الطائفي والعشائري والقومي على مدى مراحل مختلفة من تاريخهم رغم كل الإنكار الذي يتبناه بعض المعارضين لهذه المسألة، فإنهم يعيشونها اليوم في أعلى مراحلها وأبعدها عن الوطنية الحقيقية. أما ضمن المجموعة الواحدة (سواء طائفة أو عشيرة) فإن تهمة بكلمة واحدة (عوايني أو شبيح) كافية لإهدار دم المتهم فوراً في إعادة إنتاج نفس الممارسات التي قام بها النظام عندما كان يعتقل العشرات لمجرد الشك أو الشكاوى الكيدية. لا يوجد وقت أو رغبة في سماع أي كلام، هي محاكمات ميدانية شعبية آنية وفورية تصدر أحكامها عن أناس غاضبين فقدوا الكثير بسبب إجرام النظام وشهدوا محاكماته الميدانية سواء في السجون أو حتى في الشوارع العامة.
وصلت حالة القطبية إلى داخل العائلة الواحدة وكثير من المعارضين اليوم يقاطعون إخوانهم وأشقاءهم على مذبح التأييد والمعارضة، ومهما كانت الاتهامات موجهة للنظام الذي زرع بالفعل الكثير من المواقف السلبية واللاأخلاقية بين الناس، فإن القابلية للقطبية (بالاستعارة من تعبير مالك بن نبي) موجودة لدى السوريين وأثبتت وجودها مع انفجار الثورة في كل أرجاء الوطن. ولئن اعتبر البعض هذا الكلام تعالياً على الوعي الشعبي أو تعامياً عن بعض الحقائق المضيئة والأمثلة الرائعة، فإن الكلام يتجه هنا إلى اللاوعي الجمعي المختزن في ذاكرة الناس ولو أن بعضهم لم يشهد أية أحداث دموية في حياته. وتمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت بآلاف وعشرات الآلاف من العبارات والتصريحات والتهديدات حيث يتبادل كل من طرفي المسألة الاتهامات عن منشأ بعض الصفحات وهوية من يكتب فيها. إن القطبية الوطنية أصبحت أمراً واقعاً وهذا ليس تشاؤماً ولا مبالغة ولا تقليلاً من شأن الثورة على الظلم والاستبداد، ولكنه نتيجة طبيعية في الأزمات التي تعصف بأي بلد وخاصة مع طول أمدها. عاش الفلسطينيون هذه الحالة منذ بدء القضية حين اضطروا للخضوع لحالات الاستقطاب السياسي بحسب تابعيتهم أو وجودهم الجغرافي ويعيشها العراقيون والليبيون والمصريون واليمنيون اليوم ولكن مع الفوارق الثقافية والاجتماعية بين كل هذه الدول والشعوب.
تتصاعد وتيرة هذه القطبية مع تصاعد العمليات المسلحة سواء من النظام أو الثائرين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم. وهكذا يتحول حامل البندقية سواء كان من الجيش الحر أو الجيش النظامي إلى خصم وحكم في آن معاً، ويتحول الآخرون إلى مجرد حلقات في مسلسل الاستقطاب الوطني الرهيب. ومن هنا نفهم الرعب الذي يعيشه أهل الكثير من المناطق المشتعلة في سوريا (وما أكثرها) لدى اضطرارهم للسفر أو العبور من شارع لآخر في بعض الأحيان. فلا أحد يمكنه التنبؤ بهوية الحاجز القادم على الطريق، كما أن أحداً لا يمكنه التنبؤ برد فعل حامل البندقية على الإجابات التي سيسمعها من راكب السيارة أو –وهو الأسوء- رد فعله على بيانات هويته. قد لا يموت الناس على الهوية اليوم في سوريا، ولكن من المؤكد أنهم باتوا يتصرفون على هذا الأساس وخاصة مع حالة الفرز والفلترة التي يتعرض لها السوريون سواء من النظام أو الثوار. ربما لا تكون الصورة بهذه الضخامة ولكنها تتجه لتكون كذلك لأن المخيال الشعبي العام يميل للتكتل والاحتماء بالجماعة بعد أن فقد الوطن أي معنى له وبعد فشل كل التيارات القومية والوطنية في إرساء حالة من المواطنة الحقيقية التي تعني وجود مرجعية وطنية لا تنظر إلى طائفة أو عرق أو لون. بقيت كل هذه الشعارات حبراً على ورق طيلة قرون (وليس عقود فقط) واليوم تعيش البلاد العربية ما يشبه حالة الانفجار التاريخي الذي فاق في قوته سقوط الاتحاد السوفييتي والتحولات الديمقراطية في بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، حيث تفجرت القوميات الكامنة وتم فصل التشيك عن سلوفاكيا بإرادة شعبية خالصة وكذلك انقسمت يوغوسلافيا إلى ست دول كان ثمنها مئات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين والأيتام.
ورغم أن الكثيرين استغربوا أو استنكروا أو تعاموا عن ما حدث في مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة من قبل الأحزاب الكردية، إلا أنني رأيت الموضوع طبيعياً ويأتي في سياقه التاريخي الطبيعي وليس أمراً شاذاً أو طارئاً على هذه المنطقة. عانى الأكراد من التهميش وحتى الإقصاء الوطني طيلة فترات طويلة كما أن المسألة الكردية يتم بحثها منذ الاستقلال دون التوصل إلى أية نتائج على الأرض إلى أن نشأت أجيال بأكملها لا تحمل هوية ولا جواز سفر وكأنهم بشر طارئون أو آتون من كوكب آخر. ولهذا واستمراراً مع مسألة القطبية علينا أن نفهم أن تركيا التي احتضنت كل أطياف المعارضة السورية تقريباً أخفت أو حاولت إخفاء امتعاضها من تعيين عبد الباسط سيدا على رأس المجلس الوطني، ولكننا يجب أن نفهم أن تركيا لا تقوم بكل ذلك بلا مقابل والمعارضون في الخارج يعلمون ذلك تماماً. وهكذا يتم إسقاط لواء اسكندرون من كل الخرائط السورية الصادرة عن المجلس الوطني أو غيره من حركات المعارضة بينما يتم القفز على المسألة الكردية خشية إثارة غضب الحوت التركي والذي يعتبر المسألة الكردية خطاً أحمر وخاصة بعدما أصبح للكرد إقليم شبه مستقل في شمال العراق.
حالة القطبية الوطنية لم تتوقف عند نقل الحقائق ذاتها بوجهين مختلفين، بل تجاوزتها إلى الروايات والقصص التي تنتشر في أرجاء المعمورة عن سوريا وما يحدث فيها. ونرى أن الضغط الرهيب الواقع على السوريين في الداخل والخارج ولّد حالة مما يمكن أن نطلق عليه “أسطرة الثورة” بمعنى إضفاء الطابع الأسطوري على كل ما يتعلق بالحراك الشعبي أو المسلح وتحويل رموزه إلى ما يشبه أيقونات أو رموز تاريخية تقارب في معناها وغايتها أسطورة “جان دارك” والتي تم توظيفها خلال حرب المائة عام بين فرنسا وانجلترا إلى درجة قيادتها للجيوش الفرنسية مع أنه تم إعدامها وهي لا تزال في التاسعة عشر من عمرها. ولسنا هنا نقلّل من التضحيات الهائلة للمدافعين عن أرواحهم وممتلكاتهم وحريتهم إلا أن أسطرة الروايات واستعادة بعض الصفحات المضيئة من التاريخ وإسقاطها على الواقع تحول إلى مسألة إعلامية ترد على إعلام النظام الذي يقوم بالمقابل بشيطنة كل ما يتعلق بالثورة والثائرين باتجاه تخوينهم وإقصائهم واعتبارهم مارقين أو فوضويين هدفهم الأول والأخير نشر حالة القلق والخوف في سوريا وليسوا طلاب حرية وعدالة.
وبين اشتعال القطبية الدولية وانفجار القطبية الوطنية يسقط آلاف السوريين شهرياً قتلى وجرحى ومعاقين وأيتام ضحايا مذبحة وطنية لن تبقي ولن تذر. يعيش من بقي حياً إما في حالة ذهول أو انفصام كلي عن الواقع أو ترقب للقادم المجهول أو حاملاً بندقية ستكون مفتاحه لفرض فكره أو فكر من يقف وراءه أو حالة أعم من المعارضين أو الطارئين على المعارضة والذين يعتمد برنامجهم اليومي على القهوة والدخان وكتابة أي شيء على صفحات الانترنت، ليتحول كثير منهم إلى ما يشبه نجوم السينما وخاصة إذا أطل أحدهم على شاشة ما وبدأ بتجريب حنجرته وطبقات صوته الرخيم معتقداً أن شاشاتنا لا تتحكم بالصوت.
يقول غسان كنفاني:
“إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية.”
تعليق واحد
تنبيه: بين القطبية الوطنية والقطبية الدولية . . بقلم: خالد كنفاني « مختارات من الثورة السورية