روبين ياسين-كساب
أحد الأصدقاء السابقين من اليساريين الصبيانيين وصف مؤخراً الجيش السوري الحر على أنه ‘عصابة طائفية’. من الوارد جداً أن يأتي هذا التعبير أو الوصف على لسان أسعد أبو خليل، الذي يبدو أنّ له جمهور واسعاً بشكل يبعث على الكآبة، لكنه قد يأتي أيضاً من أي من المفكرين الشموليين الذين يتواجدون بأعداد كبيرة ضمن صفوف اليسار الغربي. أعترف بأنني كنت أنغمس أحياناً بالتفكير الشمولي فيما مضى. فعلى سبيل المثال، كنت أشير إلى قطر والمملكة العربية السعودية على أنهما ‘عميلتان للولايات المتحدة’، كما لو أن هذا فقط هو كل ما يمكن قوله عنهم. وقد فعلت ذلك في رد غاضب على وسائل الإعلام الغربية الرئيسية التي وصفت الأنظمة العربية الاستبدادية الموالية للغرب على أنها ‘معتدلة’؛ ولكن بالطبع، فلقطر والسعودية أجندتهما المتنافستان الخاصتان بهما، حيث لا تتصرفان دوماً كما يريد الأمريكيون. وهذه حقيقة واقعة الآن أكثر مما كانت عليه قبل عشر سنوات، حيث أننا نعيش الآن في عالم متعدد الأقطاب وفي خضم أزمة اقتصادية تشل الحركة في الغرب. فالعمالة الصينية التي تتولى القيام بالمشاريع النفطية والهندسية في الخليج هي أحد المؤشرات الواضحة على تغير الموازين.
(إن حديثي عن ‘اليسارية الصبيانية’ لا يشمل بالطبع اليسار ككل. فسيمون عساف من صحيفة العمال الاشتراكيين، على سبيل المثال، يفهم ما يحدث. وكذلك الأمر بالنسبة لماكس بلومنثال Max Blumenthal، والكثير غيرهم.)
المشكلة بالمفكرين الشموليين هي أنهم غير قادرين على التكيف مع واقع سريع التغير. فبدلاً من الأدلة والمبادئ والأدوات التحليلية، يسلّحون أنفسهم بالغمّازات (الضوئية) الأيديولوجية فحسب. فالكثير من الجيل الحالي أصبح مسيساً بسبب قضيتي فلسطين واجتياح العراق، وهما مثالان يكون فيهما الإمبريالي الشرير أمريكياً بشكلٍ جلي. نتيجة لذلك، فقد باتوا ينظرون إلى أي موقف آخر من خلال عدسة الإمبريالية الأمريكية.
قام القذافي بفتح حقول النفط الليبية للاستغلال الغربي، كما اشترى الأسلحة الغربية، وقام بتعذيب المشتبهين الذين تمده بهم وكالة الاستخبارات المركزية CIA. فانتفض الليبيون ضد الاستبداد بشجاعة مذهلة، مستلهمين الثورات في كل من مصر وتونس. فعندما قامت بريطانيا و فرنسا، لأهدافهما الخاصة، بالمساعدة على تعجيل النهاية عن طريق تدمير قوات المرتزقة التابعة للقذافي (وكانت تلك مساعدة هامة، لكنها لم تكن محورية – فسقوط القذافي كان نتيجة انتفاضة في طرابلس وتدفق للمقاتلين من جبل نفوسة)، صبغ المفكرون الشموليون الثورة الشعبية بشكل مهين على أنها مخطط أجنبي. حتى أن بعضهم، وبأثر رجعي، ارتقى بالقذافي إلى مصاف البطل في مواجهة الإمبريالية. فمنذ سقوط النظام القديم، فعلوا كل ما يستطيعون القيام به لتصوير ليبيا على أنها دولة فاشلة، وساحة للإبادة الجماعية، عراق جديد. وهذا مهين للعراق كما هو مهين لليبيا.
إن حقيقة أن العمل السياسي والمجتمع المدني كانا محظورين لعقود، وحقيقة أن القذافي فرض حرباً أهلية على شعبه، متسبباً بأزمة شديدة لهم ودافعاً آلاف الشباب لحمل السلاح، يعني أن ليبيا الجديدة تواجه مشاكل هائلة، وهذا الأمر لا يخفى على أحد. فعندما تنتهي ديكتاتورية بشكلٍ عنيف، ستبرز جميع المشاكل التي كانت مكبوتة إلى السطح. فهي كإزالة الغطاء عن طنجرة ضغط: كل الخير والشر في المجتمع، وكل الذكاء والغباء الذين كانا مخفيين سابقاً، سينبثق خارجاً. هذه ليست محاججة للإبقاء على الدكتاتورية، فرغم مقتل المئات في ليبيا منذ سقوط القذافي، وذلك بسبب الصراع بين المليشيات المتناحرة بشكل رئيسي، وفي بعض الأحيان كان لذلك منحىً قبلي أو ثأري، لكن لم يكن هناك أي تطهير عرقي كما حدث في العراق. كما توجد حركة انفصالية في شرق البلاد، وتصدر الجماعات الإسلامية المتطرفة الهامشية الكثير من الصخب، في حين يرفض الكثير من الشبان المسلحين التخلي عن أسلحتهم. لكن البلاد شهدت انتخابات ناجحة جداً. وإذا استطاعت الحكومة الجديدة امتصاص المليشيات وإدراجها في جيش وطني وحل الخلافات القبلية والإقليمية وغيرها من الخلافات ضمن عملية سياسية مقبولة، فإن ليبيا تستطيع التطلع إلى مستقبل أفضل بكثير. فاستطلاعات الرأي والحوارات مع الليبيين تشير إلى أن غالبيةً ضخمة سعداء برحيل القذافي و متفائلون حيال المستقبل. لكن ما أهمية رأي الليبيين بالنسبة للمفكرين الشموليين؟
بعد 17 شهراً من القتل في سوريا، ليس هناك أي منطقة لحظر الطيران. ومدى التدخل الغربي والتدخل ‘العميل’ في ذلك هو كما يلي: ربما تقوم السعودية وقطر بتزويد كميات بسيطة من الأسلحة الخفيفة. كما أن الأتراك ربما يساعدون في تنظيم توصيل الأسلحة. في حين يبدو أن وكالة الاستخبارات المركزية CIA لديها بعض الرجال على الأرض، يراقبون أين تذهب الأسلحة ويأملون (عبثاً) التأكد من عدم وقوع هذه الأسلحة في أيدي المناضلين المعادين للصهيونية. وفي المقابل، يقف نظام طائفي بحت يعتبر شعبه عبيداً، فيقتلهم ويدمر مدنهم بالأسلحة الروسية. روسيا الإمبريالية، التي قمعت المسلمين في القوقاز ووسط آسيا، والتي تتحمل نصف المسؤولية عن الحروب الساخنة التي نشبت في أفريقيا بسبب الحرب الباردة، تقوم بإعادة إمداد النظام بالحوامات الهجومية، وقطع الدبابات والذخيرة فيما تتخطى إحصاءات القتلى السبعة عشر ألف قتيل. كما تقوم روسيا أيضاً بحماية النظام من الإدانة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فهي تلعب بالنسبة لسوريا نفس الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل. لكن كيف يرى المفكرون الشموليون الوضع؟ بالنسبة لهم، إن هذا الموقع هو حالة واضحة أخرى من العدوان الإمبريالي الأمريكي على نظام ممانع شريف، ومرة أخرى فالشعب ليسوا سوى أدوات سلبية.
ففي أفضل الحالات ليسوا سوى أدوات سلبية. حيث يصور المفكرون الشموليون الشعب على أنهم مسلمون همجيون، ذوي لحىً وأحجبة، لا يستحقون الديمقراطية أو أي حقوق لأنهم لن يستطيعوا استخدامها بسبب تخلفهم، فإن أعطوا الديمقراطية، سيصوتون لجماعة الأخوان المسلمين، ويقتلون العلويين، ويطردون المسيحيين إلى بيروت. كما يقوم المفكرون الشموليون بالبحث عن أدلة لجرائم ارتكبتها المقاومة الشعبية، وعندما يجدونها (وعادة ما تكون أدلة مشكوك في صحتها) يستخدمونها للتشهير بالحراك الشعبي بأكمله. فهم يطالبون المقاومة أن تتفاوض مع نظام أثبت المرة تلو الأخرى أن إستراتيجيته الوحيدة هي القتل. ويطلبون من الناس أن يبقوا مسالمين بينما يعذب أطفالهم، وتغتصب نساؤهم، وتسوّى أحياؤهم بالأرض. ولا يطبق المفكرون الشموليون اليساريون نفس المعايير على الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، فمن يفعل ذلك يعتبر صهيونياً.
إن وصف الجيش السوري الحر “بالعصابة الطائفية” يعادل وصف الشعب السوري “بالعصابة الطائفية”، فهو ينم عن جهل متعمد بالواقع. حيث تأسس الجيش السوري الحر رداً على العنف الشنيع الذي ارتكبه النظام السوري، الذي يعتبر في هذه المرحلة عصابة طائفية. فقطاعاته العسكرية العلوية تعمل مع مسلحين مدنيين علويين لقتل السنة. إن هذا كارثة للعلويين والجميع، فهو يزرع بذور حرب محتملة قد تدمر البلد لأجيال، وهذا أحد أهم الأسباب التي تدعو لرحيل النظام في أسرع وقت ممكن. لكن الجيش السوري الحر في الحقيقة ليس إلا عبارة عن مئات الميليشيات المحلية التي تتعاون في بعض الأحيان. فهو يتألف من جنود منشقين (وهؤلاء هم أبطال – انشقوا عن الجيش رغم المخاطر الشخصية لأنهم لم يعودوا قادرين على احتمال قتل الناس؛ والكثير من الجنود الذين يحاولون الانشقاق يتم قتلهم قبل مغادرتهم لقواعدهم) ورجال محليون حملوا السلاح للدفاع عن حاراتهم. ولأن الجيش السوري الحر يتألف من أناس عاديين، فهو يغطي طيفاً واسعاً من الآراء السياسية. فبعض المقاتلين هم بعثيون خابت آمالهم في الحزب، وبعضهم علمانيون، والبعض الآخر يساريون، وبعضهم يدعمون الأخوان المسلمين فيما ينجذب البعض إلى الخطاب الوهابي المتطرف. وأنا متأكد أن بعض هؤلاء مجرمون، لأن بعض الشعب السوري مجرمين. وقد يكون أمل البعض منهن الربح المادي أو الجنسي، فهذه طبيعة البشر.
معظمهم هؤلاء الناس غير مُسَيّسين، باستثناء أنهم يريدون إسقاط النظام. فهم يقاتلون لأنه ليس لهم خيار آخر. وبالطبع، فهناك خطر كبير من سهولة التلاعب بالناس غير المسيّسين بواسطة الخطاب الطائفي، وبالأخص عندما يجهد عدوهم في توظيف الطائفية. وهذا بالفعل وقت عصيب على الثورات في العالم الإسلامي و الدولي، فانهيار الفكر اليساري وامتداده، وانحسار النقاش العام في ظل الدكتاتوريات والاستهلاكية، قد فتح الباب أمام أشكال سياسية رجعية دينية أو قومية. إن بعض فيديوهات المعارك المعنونة ‘الجيش السوري الحر’ تبدو مشابهة و بشكل يبعث على الاكتئاب لفيديوهات الجهاديين في العراق. لكنها الآن ليست إلا مشكلة أسلوب وجهل بشكل رئيسي، ومن السهولة تفسيرها بشكلٍ خاطئ من وجهة نظر استشراقية. إن معظم الشعب السوري متدين، شئنا ذلك أم أبينا، إلا أن معظم الشعب السوري أيضاً يعي أنه لن يكون هناك أي فائز في حرب طائفية. فنداء ‘الله أكبر’ يعبر عن حالة إيمان ضرورية للتغلب على الخوف من الموت. لكنه لا يعني بشكل تلقائي ‘اقتلوا الكفار’. (لكن إلى من أتحدث؟ فالفلسطينيون يستخدمون الخطاب الديني عندما يتحدثون عن ‘اليهود’ بدلاً من ‘الصهيونيين’، وهذا لا يهم المفكرين الشموليين ولو للحظة).
كلما طال القتال الذي لا بدّ منه، كلما توحّش الناس، وزاد احتمال أن تهيمن الأصوات الطائفية الحاقدة. من الواجب على كل إنسان سليم التفكير، سواء أكان يسارياً أو غير ذلك، أن يدعم الشعب المضطهد في نضاله. وأي أحد يقوم بذلك، ويحترم السوريين بدرجة كافية ليبني تعليقاته على الوقائع بدلاً من الافتراضات، سيكون قد اكتسب الحق في تقديم المشورة السياسية للسوريين.
إن الجيش السوري الحر غير منظم وينقصه العتاد لا محالة، لكنه منظم الآن بشكل أكبر بكثير مما كان عليه قبل بضعة أشهر، حيث يقوم بتحرير المناطق. فهو يحارب بالتزامٍ ومرونة هائلة، واليوم القتال أصبح في قلب دمشق.
منذ أيام، كان القتال يدور في مخيمي اليرموك وفلسطين، الأمر الذي يقودني إلى حقيقة غريبة، وهي أن المفكرين الشموليين يستمرون في تصوّر النظام السوري على أنه يشكل تهديداً ما لإسرائيل. صحيحٌ أن سوريا ساعدت حزب الله على الصمود، وهذا ليس بالشيء الهين. ولكن من الصحيح أيضاً أن النظام السوري ارتكب المجازر بحق الفلسطينيين في تل الزعتر وغيرها من المخيمات في لبنان، وأنه منذ عام 1973 تتمتع الحدود مع الجولان المحتلة بهدوء أكثر من الحدود مع الدول التي تتمتع بمعاهدات سلام مع إسرائيل، وأن سوريا لم تحاول حتى إطلاق النار على الطائرات الإسرائيلية التي قصفت في مناطقها منذ تولي بشار للسلطة بالوراثة. لكن الأمور أصبحت أكثر وضوحاً منذ بداية الثورة، حيث صرح رامي مخلوف لصحيفة نيويورك تايمز New York Times أن أمن إسرائيل يعتمد على أمن النظام السوري.
وقد اقتبس بول وودورد Paul Woodward في موقع ‘الحرب ضمن السياق War in Context’ الالكتروني من رويترز Reuters حول نقل النظام مؤخراً لأسلحة كيميائية: أن مسؤولاً إسرائيلياً صرح بأن التحركات عكست محاولة الرئيس بشار الأسد القيام “بترتيبات لضمان عدم وقوع الأسلحة في أيادٍ غير مسؤولة.”
“هذا يدعم الظن في أن المسألة تمت معالجتها بطريقة مسؤولة حتى الآن.”
ثم يعقب وودورد: إذن، بينما الحديث الصادر عن دمشق هو أن “إرهابيين” مسلحين “بأسلحة آلية إسرائيلية الصنع” هم من قاموا بارتكاب المجزرة في التريمسة أمس، فإن الحديث الصادر عن تل أبيب هو أن الأسلحة الكيميائية السورية ليست بالمسألة التي يجب القلق منها طالما هي باقية في الأيادي المسؤولة للحكومة.
قد يكون هناك بعض الصدق في هذا التصريح. لكنه، ليس بالضبط الخطاب الذي قد يتوقعه المرء من ممثل لتحالف يفترض أنه يهدف إلى إسقاط الأسد. على العكس، فهو يعكس واقع أن إسرائيل ستكون أسعد بكثير لرؤية الأسد باقياً في السلطة.
فلينظر المفكرون الشموليون لهذه الفكرة الأبسط: حزب الله قد أحرز انتصاراتٍ بسبب احترامه لشعبه، ولأنه جزء لا يتجزأ من شعبه. أما نظام يقتل شعبه ويدمر البنية التحتية الوطنية، ويتلاعب بالصراع الطائفي القابل للانفجار، ويضع مستقبل شعبه بأكمله قيد التساؤل، لن يكون قادراً على إحراز أي انتصار، حتى وإن رغب في ذلك.
يوم الجمعة، قام عشرات الآلاف بالتظاهر ضد بربرية النظام في المخيمات الفلسطينية في دمشق. حيث فتحت قوات النظام النارن مرديةً أحد عشر شخصاً. وتم جر الكثير من منازلهم ليتم تعذيبهم في المعتقل. في حين أن الكاذب المتمرس والناطق باسم النظام، جهاد مقدسي، وصف الفلسطينيين بأنهم ‘ضيوف غير مهذبين’، مما أدى إلى إثارة حنق السوريين و الفلسطينيين، الذين هم متحدون الآن أكثر مما مضى.
مدونة قنفذ Qunfuz الالكترونية
ترجمة : المترجمون السوريون الأحرار