بين أشد لحظات الليل ظلمة وسطوع الفجر… لحظة صبر واحدة، وبعدها تبزع خيوط النور، إنها تلك اللحظة التي مرت على سوريتنا بعد أيام قليلة على مرور نفس التجربة على شعب التونسي والمصري الحبيب، لم ينتبه أحد لكون الجمر يتقد تحت الرماد وأن الصدور تغلي كغلي القدور، فاستيقظ الناس على بركان ثائر ينادي بالحرية والكرامة، في وقت حالك السواد كان أعظم المتفائلين فيه لا يرجو تحرك تلك الجموع بهذا الغيظ المكتوم إلا بعد عشرات السنين.
تلك التجربة الفريدة التي عاشها أهلنا في بعض الدول العربية شيوخاً وشباباً وأطفالاً، رجالاً ونساءً، أثرت فينا جميعاً وتَعلمنا منها دروساً كثيرة ما كنت أعتقد أني سأكون ممن يشهدها أو يتعلم دروسها وخاصة من هؤلاء الشباب الذين كنت – كغيري – لا أطمع ولا أطمح أن أرى منهم هذه الانتفاضة والثورة.
وتوقفت مع تلك اللحظة الفارقة في عمري بل الفاصلة في تاريخ شعب عريق موغل في القدم لأستلهم تلك الدروس وأستحضرها جيداً كي لا تضيع في زحام الأخبار والمستجدات التي لا تتوقف ليل نهار.
علمتني الثورة أن لا أحكم على الناس ولا أُقيمهم دون معرفة متأنية وواعية لما يحملونه داخلهم، وأن لا أنظر فقط إلى مظهر خارجي سطحي فربما يكون خادعا، وألا أكون أسيراً لحكم ثابت على أحد فكل شئ يتغير بسرعة ربما تفوق التصور، فقد كان حكم الكثيرين – ومنهم أنا بالطبع – على هذا الجيل من الشباب أنهم تافهون فارغوا العقل قليلوا الهمة متفرغون لعبثهم مضيعون لأوقاتهم، وأنهم مكبلون لا يمتلكون الإرادة الحرة، وأن كل ما يشغلهم هو رغباتهم وشهواتهم فقط وخاصة حين يقضون الساعات الطوال على شبكة الإنترنت، ولكننا فوجئنا بهمم عالية تناطح الجبال وبرسوخ وثبات شديدين أمام أشد قوى البطش والتنكيل دون حيد عن الهدف المنشود وفي تصميم وإصرار عجز عنه كل من سبقهم من جيلنا أو ممن سبقنا، حتى عجزت أفهامنا وتحيرنا وتساءلنا هل هناك تحول جذري في شخصياتهم أم هل كان تقييمنا لهم سطحياً دون دراسة حقيقية وواقعية؟!!.
وعلمتني الثورة أن أتيقن أن التغيير في كل عصر لم ولن يكون إلا على أيدي الشباب أو مصحوباً بالشباب، فلا تغيير حقيقي إلا بهم، ولا انصلاح لحال أمة ولا تحريك لركودها إلا بشبابها، فهم وقود كل ثورة وأسس كل تغيير، وعلى عكس ذلك فقد ظللت فترة طويلة وأنا أتلمس الخير والنفع فقط في الشيوخ فقط، ولم أكن أعتقد ولو للحظة أن الشباب الحالي يُرجى منه أي خير، لما أراه من التفسخ والانحلال البادي على مظاهرهم وتصرفاتهم، وكنت أعتقد أن التغيير المنشود البعيد لن يأتي إلا من النخب المثقفة أومن كبار السن، وأنه قد ولى ذلك الزمن الذي يستطيع الشباب أن يسطروا تاريخ المجد والشرف لأممهم، ولكنني فوجئت بهؤلاء الشباب المستترين خلف الشاشات القابعين في البيوت والمكاتب ينتفضون ويملئون الأرض عملاً وسعياً وخيراً، ويبذلون المهج في سبيل الوصول لغايتهم، بل وسار الشيوخ جاهدين خلفهم ليلحقوا بركابهم متعجبين ومبتهجين بما يرونه من تصرفاتهم وأفعالهم التي فاقت كل تصور وحد، وتبدلت أقوال الحكماء المزيفين الذين هاجموهم في البداية واستخفوا بهم وبتحركاتهم فصاروا يتعلمون منهم يستدفئون بجوارهم من برودة كهوف الخوف الذي ولدوا وتربوا وعاشوا عليه حتى حطم هؤلاء الشباب أغلال الشيوخ.
وعلمتني الثورة أن لكل عصر أسلحته، فما يصلح سلاحاً لعصر لا يصلح لعصر بعده، وأنه يجب علينا أن نواكب العصر في أسلحته وخاصة إذا أرادت الأمم أن تتقدم وأن تلحق بمن سبقها، وتمثلت تلك المفارقة العجيبة في مشهد نادر عجيب يدل على الفرق الشاسع الفكري بين الفريقين، فتمثل الفكر الضيق ممن حارب هؤلاء الشباب حين أتوا بمن يريد إيذاءهم وهم في كامل عتادهم الحربي، وكأن تلك المعركة قد تجلت فكريا بين قوتين، قوة تريد أن تتقدم وأن تواكب عصرها في علومه وثقافاته وتستفيد منها وتطوعها لخدمة قيمها ومجتمعاتها وقوة أخرى لازالت متحجرة في مكانها لا تريد أن تتحرك عقلياً وفكرياً قيد شبر واحد وساهمت بجمودها وتخلفها في تخلف مجتمعاتنا في كافة الميادين.
وعلمتني الثورة أنه ما ضاع حق وراؤه مطالب، وأن الباطل لا ينتفش ويتضخم وينتشي إلا عند غياب أهل الحق أو عند تساهلهم في المطالبة بحقوقهم، وأن الشعوب المظلومة المنكسرة هي من تصنع جلاديها.
وعلمتني الثورة أنه لابد من دفع الثمن الغالي لنيل الكرامة والحرية، وأنه كما قال قائلهم يوماً “الحرية لا توهب بل تُنتزع” فالحرية لم ولن تكون في يوم ما منةً ولا هبةً من الطغاة الظالمين الذين يجدون حياتهم وأمانهم في الظلم والبغي فدفع الثوار الثمن غالياً من دمائهم الطاهرة التي ستظل لعنةً على سافكيها.
وأيقظتني الثورة على المستوى الأسري الأبوي على جرس إنذارٍ قوي، قبل أن يأتي الطوفان، أيقظتني بأن أغلبنا يعاني من أزمة استماع كل طرف للأطراف الآخرين داخل الأسرة الواحدة الصغيرة، وأن كلاً منا يسمع نفسه ويردد أفكاره فقط ويظن أن الطرف الآخر ليس لديه القدرة ولا الملكة التي تمكنه من التعبير عن نفسه وعن متطلباته وآماله وطموحاته وأفكاره ويتهم بعضنا بعضاً بالهامشية والسطحية، وكل منا يظن أنه يحتكر وحده الصواب.
وأختتم بقول أحد الناشطين الشرفاء بقوله: “أنه لابد للأمة من ميلاد ولابد للميلاد من مخاض ولابد للمخاض من آلام ودماء”.
تعليق واحد
مقالة رائعة سلمت يداك!!