إياد كلاس
كان “قاسم” – النازح الصغير في إحدى مدارس غزة – مستلقياً على حافة المنصة متأملاً الأرض القاسية التي تسند بطنه الصغير في هذا اليوم الرمادي البارد
“واحد ، تنين ، تلاتة” كان يعد آثار مقاعد الدراسة التي كانت تملأ أرض الصف قبل أن تملأها “دعسات” عشرات النازحين …
بدأ بالزحف ليعد ما أمكنه من الآثار السوداء الغامقة ثم صار يتساءل و هو يزحف إن كان عدد المقاعد في الصف قبل إنتقال الأهالي إليه أكبر من عدد اللاجئين ذي الوجوه الصفراء أو لا ،
أسئلة قاسم و عدم قدرته على تجاوز العد بعيد الأصابع العشر أدى بمخيلته الصغيرة بأن تطير بعيداً إلى عالم لا يفهمه إلا الأطفال، و لكن حلم اليقظة الوردي في عينيه ما كاد أن يتلاشى حين وجدت عيناه الزيتونيتان طبشورة زرقاء بلون السماء عندما لا تعكر صفوها الصواريخ
أمسك “قاسم” الطبشورة بكل حب و عينيه تلمعان ، إنتفض كالمجاهدين و مشى إلى السبورة الخضراء، اعتلى المنصة و راح يطرز بالطبشورة عبارة “فلسطين حرة” على اللوح المتناهي في الكبر -مقارنة بيده الصغيرة- … تلك العبارة التي يعرفها كل أطفال فلسطين حتى ذوي الأعوام السبع أقران “قاسم” …
“فاء”، كما في “فدوى” اسم أخت خالد التي إستشهدت في عام ال 2009 بعيد القصف على غزة … ما زالت صورتها و هي مرتدية فستانها الزهري المضرج بالدماء نصب عينيه
“لام”، كما في “لن” … الكلمة الأكثر تكراراً في حديث أبو قاسم الذي تعود “قاسم” النظر إليه و هو يخاطب التلفاز كل مساء قائلاً “لن نركع” “لن نستسلم” “لن نتخاذل” “لن نترك ارضنا” …
“سين”، كما في “سوريا” … “الجار كبل الدار” همس قاسم في سره
“طه”، كما في “طبل” لعبة قاسم الوحيدة التي تلقاها في عيد الأضحى لهذا العام ، تلك و حذاؤه الرياضي الأبيض الذي -على حد زعم قاسم- يجعل مرتديه أسرع إنسان في كل فلسطين
“ياء” ، كما في “يا رب” ، أنشودة الأمل التي تتفوه بها أم قاسم كل صباح قبل أن تبدأ بعجن خبز اليوم محتلية بطرحتها البنفسجية صيفاً شتاءً
نون …. فكر “قاسم” لبرهة ، و لم يجد أي كلمة في قاموسه تبدأ بالنون …. فقرر أن يأخذ بأواخر الكلمات حتى لا يعلن استسلامه كما قال له والده “ما تكول بعرفش ، حاول و خلي ايمانك بحالك كبير” و قال “عرفتها … نون ، متل زيتون”
انتهت كلمة فلسطين بعد حين و كأن للطبشورة غصة تمنعها من كتابة هذه الكلمة المقدسة …. و لكن ما أن أنه “قاسم” كلمة “فلسطين” حتى بدأت الطبشورة بالرقص السريع على أنغام كلمة “حرة” التي قد بدا لونها و كأنه أبهى ….
في لحظة إنتهاء قاسم من خط العبارة ، انكسرت الطبشورة محدثة ثقباً في السبورة ، ثقباً مغري جداً لفضول “قاسم” ذو السبعة اعوام المحتلي بغبار أرض الصف، و “بيجامة السبونج بوب” التي أتى بها إلى المدرسة
أطل قاسم بمقلته الصغيرة من الثقب، ليرى أطفالاً كثر في صف آخر يلعبون و يغنون “أنا سوري اه يا نيالي ، سوريا حرة حرة ، بشار اطلع برا”
شهق “قاسم” ، فسمعه أحد الأطفال على الطرف الآخر …
“مين إنته؟” سأل الطفل على الطرف الآخر …
“أنا قاسم ، إنت مين؟” أجاب قاسم
“أنا إسمي حمزة … و عمري كل هدول” مشيراً بخمس أصابع بوجه قاسم ….
“أني غيران، ما عنديش رفاق إلعب معاهم ، و مش بروح على المدرسة” إشتكى قاسم بصوت حزين يكاد يختنق …
“أنا كمان ما عاد رحت عالمدرسة … بس أنا عايش بالمدرسة مع كل أهلي و جيراني”
“ليش عايشين بالمدرسة؟” سأل قاسم ناسياً أو متناسياً أنه يعيش في مدرسة أيضاً …
“لأنو عنا ثورة ، و في كتير صواريخ برا” ما فينا نطلع …
“احكي والله؟ و نحني كمان ….” ابتسم قاسم لارتباطه باللحظة رغم حزن الحقيقة التي تفوه بها …
في هذه الأثناء بدأت أم قاسم بالحديث عن معاهدة و إيقاف إطلاق نار و كلمات أخرى لم يفهمها قاسم …. منهية حديثا “يما …. تعال نروح عالبيت”
“بس يما في صواريخ في الشارع”
“لا يما … وقفت الصواريخ”
و في هذه الأثناء صدح صوت صاروخ مرعب و كأنه كان يأكل السماء أثناء طيرانه ، لكن قاسم أدرك أن الصوت قد أتى من خلال الحائط … من الثقب الصغير الذي يفصله عن أصدقائه الأطفال السوريين …
استجمع قاسم كل قواه و أفكاره ، و نسج خيطاً سحرية بألوان قوس قزح من كل الأطياف التي شهدتها عيناه منذ لحظة خلقه و قام بمدها عبر الثقب …
“حمزة ، جيب رفاقك و اركبوا على الخيط و تعالوا معي … عنا ما عاد في حرب”
و لكن أم قاسم لم تعير أي إنتباه لقاسم أو الثقب أو الخيط السحري أو حمزة أو الصواريخ على الطرف الآخر ، و أمسكت بيد قاسم و سحبته حتى يعودا إلى البيت دون تردد … و كأنها أصبحت عادة ….
اختنقت الكلمات في حلق قاسم و لم يجد ما يتفوه به غير الأغنية التي تعلمها من صديقه السوري “سوريا حرة حرة …. سوريا حرة حرة”