هناك من يُعتقل لفكره… و هناك من تعتقله الفكرة!
زنزانة عابرة| قصة قصيرة
بقلم: يوسف أبو خضور
“تستطيع التفكير بالألم و تشغل بالك به لكنك لن تتألم ، الألم شعور و ليس فكرة”…
الآن فقط أدركت معنى هذا الكلام و أنا أزحف وحيداً في زنزانتي واضعاً فمي على طرف دلو الغائط محاولاً خلع ضرسي الذي يؤلمني منذ أسبوع أو أكثر أو أقل لا أعلم ، أنا أقيس الوقت هنا بالخيال ، الوقت هنا بطئ جداً ، اللحظة أبدية و الصورة ثابتة لا تتحرك .
لم أجد في زنزانتي أي أداة تصلح لتحريك ضرسي أو جَرح مكان الإلتهاب الذي أعتقد أنه وصل لعيني ، منذ أيام و أنا أحاول تخيل هذا الألم و طرده، أذكر أنّي قرأت مرة عن العلاج بالتخيل، يخبرونك أن تسترخي و تتخيل الألم على شكل سحابة بيضاء أو سوداء ثم تحاول طرده عبر أنفك أو أي فتحة في جسمك، أما أنا فكنت أتخيل الألم في سني على شكل مجموعة من الحشرات السوداء تتدافع و تقضم أعصابي وتضحك بهستيريا، كنت أشعر بها عندما يأتيني الألم على شكل نبضات تستفز صراخي ، أظن أن جيراني في باقي الزنزانات يعتقدون بأنني أتعرض للتعذيب على يد أحد السجانين،
اااه تباً للعلاج بالتخيل لقد ضاعَف ألمي و كوابيسي، أريد مسماراً أو إبرة لأفتح لهذه الحشرات طريقاً للخارج، و أحيانا أتخيل أحدهم يجلس في ضرسي و يصعق عصبي بالكهرباء …
رائحة هذا الدلو قاتلة كيف سأضع فمي على حافته، لا أستطيع لمس مكان الألم بيدي، كيف إذاً سأضعه على حافة هذا الدلو الملطخ بالخراء، لو كنت أرتدي شيئاً لمسحت المكان به، لكنني لا أذكر متى لامس جسمي القماش أخر مرة، أما وجهي فقد لامس حذاء السجّان و أنا أقبله و أرجوه أن يحضر لي شيئاً يخفف ألمي، أستفقت و الألم في وجهي لا يُحتمل، لا شك أنه رفسني على وجهي، و أغمي علي، أعتقد أنني أعاني من الإغماء المتكرر، لكنني و بسبب اختلاط الأمور علي لم أعد أميز بين الحقيقة و الحلم، كلاهما بنفس الأهمية هنا و الألم لا يبارحني أبداً، كيف أعرف أنني لا أحلم؟
البارحة خرجت من باب الزنزانة كان مفتوحاً و رحت أصرخ من ألم ضرسي ، كنت كلما فتحت باباً أجد حفرة كبيرة سوداء في داخل الغرف، بلا قاع ، عدت أخيراً إلى زنزانتي الأرض الصلبة الوحيدة، هل كان حلماً؟
مهلاً بالطبع لست أنا من يكتب لكم هذا الكلام فأنا لو كنت أملك قلماً لغرسته تحت سنّي في هذا المكان الذي يصرخ طالباً الإحتكاك بشئ ما، تستطيع أن تفكر و أنت تتألم و تحاول أن تمسك السن الملتهب لكنك لن تستطيع تحريكه او جرح اللحم المحيط به لأنك ستذهب مغمياً عليك قبل أن تحاول، لا شك أنّ أحدهم يتساءل الأن لماذا لا يستخدم أظافره؟
و الجواب لأنني أقضم أظافري باستمرار…
قال أحدهم إن الأفكار لها أجنحة لذلك أنا أحاول ترتيب أفكاري و إرسالها على شكل موجات، لا بد أن أحدهم سيلتقطها و يكتب عن ألمي، هل تظنون أنني مجنون؟
في السجن يخطر لك أفكار بهذا الجنون و أكثر، لكن تهمة الجنون ستلتصق بالكاتب الذي يدعي أنه إلتقط قصتي من الهواء، هل سيقرأها الكثيرون؟
هل سيلتقطها كاتب محترف، يصدقه القُرّاء، و يدافع عني ببسالة، و يخبرهم أنني أعيش على الخط الفاصل بين الوهم و الحقيقة؟
هل يملك جمهوراً محترماً، ذو حساسية للألم و للجمال، لا يصفق له ثم بعد لحظات يصفق لراقصة تتعرى، ثم يصفق لمهرج عديم الفائدة؟
آه تباً للجمهور كم أكرهه ، الجمهور لا دين له و لا رب، إنه يعبد الهراء، لا أحد سيشعر بألمي، تباً لهذا الكاتب و تباً لكل من سيقرأ قصتي و لا يحاول مساعدتي، إنها القشة الأخيرة التي أتعلق بها، آه كم أشتهي قشة ” لأنكش ” بها سني ، كيف أقنع الناس بأنني حقيقي؟
لماذا أفكر بالناس أصلاً؟
إنّ حقدي عليهم يفوق حقدي على سجّاني المباشر، لماذا لا يفعلون شيئاً ، أنا لا أريد إلا أداة أضعها على لحمي…
لا شك أن أحدهم يأكل الأن، و أحدهم يلتقط صوراً، الحياة تسير خارجاً بشكل طبيعي، ما أتفه هذه الحياة، إنها هشة جداً، تنتهي بحادث عابر أو بطلقة أو بشئ غامض يصيب عقلك…
لماذا لا تحمينا الحياة… لماذا لا تدافع عن أبنائها؟
هناك أحد ما يبحث عن وصفة لتنحيف جسمه، لا أذكر متى أكلت أخر مرة، أستطيع عدّ أضلاع صدري، أخاف أن يستمر الألم في ضرسي حتى بعد موتي، كيف سأموت؟
لن أموت هنا، ليت الزمن يقفز عدداً من السنين ، لا أريد الخروج من هنا فقط ، أريد نسيان كل هذا… سأتوسل للسجّان من جديد، سأُّقبل قدمه أن يحضر لي شيئا ما، أن يقتلني، لا شك أني سأعود للحياة بطريقة ما، أنا لم أنتهي بعد… أنا لم أبدأ بعد …….
من هذا الذي يكتب قصتي بهذا الشكل، لماذا يستلذ بتعذيبي و تعذيب قراءه و المشاهدين، لماذا لا ينقذني بجرة قلمه؟
ما أتفه الكتابة، إنها سلاح رخيص و قذر، لم تنفعني كل الكتب التي قرأتها، لقد ضاعفت عذابي لا أكثر، لماذا لم أكتف بمصيبتي؟
عندما يؤلمك سنّك ستنسى كل الأفكار و ترميها جانباً، لن تخفف ألمك، تباً لعبدة الأفكار، هنا في بحر الألم هذا ستدور حول نفسك و تفكر بشكل دائري أو حلزوني، هناك مئات الصور التي تتقافز في مخيلتك لكنها بلا طعم أو شكل، طرية تشبه الساعات في لوحات ” دالي”، تباً لدالي كم أفسد العقول …
لم أحظَّ بصديقة في حياتي القصيرة أبداً، لو أنني فعلت لكانت تفكر بي الأن و تتألم لألمي، لأنني لا أثق بأصدقائي، و حتى أمي رحلت باكراً جداً، لا أذكر شيئاً عنها أعزي نفسي به الأن…. لا أحد يذكرني هناك، كلهم معتقلون بطريقة ما، كلهم يأكلون الرفسات يومياً، الشرطي يرفس أحداً ما، و السينما ترفس المشاهدين، و الكاتب يرفس قُراءه، و البائع يرفس زبائنه، و الجمهور يرفسنا جميعاً بتصفيقه أحياناً و بصمته أحياناً أخرى، و أنا هنا أتعرض لكل هذه الرفسات هنا مُضافاً لها رفسات الألم.
أنا أهذي من الألم بلا شك، لقد تخيلت كل الأدوات التي رأيتها في حياتي، أريد مرآة لأرى وجهي و ضرسي ربما رؤية شكل الألم تخفف عني، وتُسهل علي التعامل معه، ثم سأكسرها و أخلع ضرسي بها، أستطيع التخلي عن نصف وجهي مقابل خلع ضرسي، كيف سأحيا بنصف وجه؟
سأتفاخر بنصف وجهي الباقي أمام أصدقائي، يا إلهي أنا مجنون بالأفلام، لا شك أن هذه الأفلام سحلت نصف عقلي، هل يعقل أن هذا جزء من فلم أو قصة، هل هناك جمهور يتفرج علي الآن، تباً للمتفرجين كم أكرههم، الجمهور بلا دين و بلا رب، كيف أقتل من يتفرج علي الأن؟
آه لقد بدأ جيش الحشرات بالمسير و التدافع….. لقد مات الكثير من الناس في الحج أثناء التدافع و السباق لإرضاء الله، و مات الكثير من الشيعة على جسر في العراق عندما شاع بينهم أن هناك عبوة متفجرة على الجسر، أذكر هذه الحادثة جيداً، لا أعرف لماذا، لقد تركت هذه الحوادث أثراً كبيراً في نفسي، كيف تعمل الذاكرة؟
لا شك أن الكثير من الحشرات داخل سني تموت الأن بسبب التدافع؟ لقد عانيت من التدافع في أول يوم لي في المعتقل، لكن أحداً لم يمت يومها، اغماءات خفيفة فقط …
عندما كنا نتدافع في السجن كان غيرنا يتدافع على شباك سينما ما ، لماذا لا يتدخل الله و يفرض عقوبة جماعية على الناس عندما يتألم أحدهم؟
سأصبح قاتلاً !!
ما هذا الهراء، لأكن واقعيا، أنا لن أنجو و لن أخرج من هنا، كل شئ حولي يصرخ بهذه الحقيقة، و الحياة ستستمر، و الرفسات ستستمر، و الجمهور سيستمر بالتصفيق للهراء، و ستستمر الكاميرات بالتقاط الصور السخيفة، و عبدة الأفكار سيدافعون عن معبودهم للنهاية، و الكاذبون الذين يتذبذون سيرثون الأرض، و أنا لن أستطيع التعبير عن حالتي و نقل الصور والذكريات الجميلة التي تداعب مخيلتي الآن بسبب حالتي الجسدية التي هي أهم من كل أفكاري و من أفكار العالم جميعاً، و الإنسانية ستموت معي…
أنا الآن أزحف عارياً على بطني في زنزانتي القذرة ووجهي يلتصق بالأرض، و رائحة قاتلة هنا، سأرفع رأسي بعد لحظات و أهوي به على الأرض أملأً بأن ينفجر الإلتهاب، و أنزف دماً أسود و سأذهب في إغماءة و كوابيس عن جيش من الحشرات تبحث عن فتحة في جسمي للخروج و الدخول من جديد،
و في هذه اللحظة هناك من يحاول الإنتهاء من كتابة قصتي كي يشعل سيجارة و يسترخي في مقهى تقابله عيادة أسنان لطبيب ما في بلاد ما، و في نفس اللحظة هناك أحمق ما يقرأ هذه الكلمات و يدقهها لغوياً و يحاول الإستهزاء بنا جميعاً و يشتمني بدل أن يشتم حظي و حظه!!
تعليق واحد
تنبيه: زنزانة عابرة – قصة قصيرة . . بقلم: يوسف أبو خضور « مختارات من الثورة السورية