إيمان محمد
مجزرة دير بعلبة، مجزرة الحصوية.. والمجازر تستمر..
باتت المناطق تُعرف هنا باسم مجازرها، باتت لكل منطقة مجزرتها الخاصّة، وشهداؤها الأطهار الذين قدّموا دمهم ثمناً لفك القيد، قدّموا أجسادهم جسوراً للعبور نحو الحرية..
من قُتلوا ببشاعة هناك ذبحاً وحرقاً هم المرابطون الذين أبوا ترك أرض الوطن، واحتفظوا بكل الكرامة ليلتحفوا ترابه، ولتحتضنهم أرضه.. ليكون سقفهم في باطن الأرض عشبه الأخضر الندي، ولحافهم مسكٌ اختلط بدمائهم..
أرواحهم التي صعدت إلى السّماء وباتت من سكّان الجنة لم تعد تتمنى شيئاً على الأرض سوى العودة والقتال..
أجل.. القتال بكرامة، الثأر لدين يُنتهك، الدفاع عن العدالة..
فيما كان العالم يراقبنا نُذبح وهو يحاول إيجاد المبررات لتخاذله، كنا نرى أنفسنا قاصرين عن فهم ما يجري، مقصّرين في حق الله..
نحن الذين صحونا متأخرين عن واقعنا، لنجد الزمن قد سبقنا.. لنجده قد سرقنا.. وسرق منّا أشياءنا الثمينة، وأشخاصاً رائعين لا شيء أبداً يعوضهم، ولا أحد يسدّ مكانهم..
مع كل مجزرة نفكر.. متى نهاية كل هذه البشاعة.. نفتّش في عيوننا عن بقايا دموع لم تُذرف، وفي قلوبنا عن بقايا نبض لم يُستنزف، وفي أرواحنا عن رمق حياة لننعشه، فنمتلك القوة على المواصلة..
نُرتب أوراقنا ونبعثرها من جديد، نتبعثر معها، ولا شيء يرتبنا.. إلا سجدة آخر الليل نبوح فيها بكل أحزاننا…
نعبئ بعض الطاقة، نشحن أرواحنا بالإيمان.. لولاه لكنّا في عداد المجانين..
فألم العقل يفوق ألم التعذيب…
أن ترى كل ما تراه وتبقى جامداً دون حراك..
أن تصمّ أذنيك عن سماع صراخ المظلومين، وتعمي عينيك عن رؤية المعذبين..
أن تتجاهل الدخان يتصاعد من أحياء مدينتك المحاصرة، ولا تأبه بحجارتها التي باتت طللاً.. لتنهمك في عمل يسكن بعض الألم في ضميرك المُتعب..
أن تفقد ذاكرتك عند المرور على الحواجز، لتخفي رغبتك الجامحة بالانتقام والثأر، بالشتم أو الصراخ.. فتبقى جامداً كقطعة من صلصال تخشى عليها من الجفاف بشكل نهائي لأنها ستغدو صخرة منحوتة بملامحك فقط لا غير!
أو تذوب فتتلاشى وتعجز عن تشكيل نفسك..
أن تقلّب وجهكَ في السّماء تفتش عن حلّ.. عن جواب شافٍ لتساؤلات ضميرك، عن عمل يقرّبك من الحق أكثر..
أن ترفع راية عجزك بعد كل جلسة تفكير، وتطرق خائباً وأنت لا تلوي على شيء وقد استنفذت طاقتك وطاقة من حولك في إيجاد مخرج.. فتجد نفسك ضمن مجزرة معنوية تُقتل فيها إرادتك، وتُبح فيها رغبتك في مواصلة الطريق الذي يزداد وعورة.. أو تجد نفسك لوهلة مطالباً بكل ما تقدر عليه، وأنت حقاً تقدر على أشياء كثيرة لكنك لضعفك تختار الأسهل والأسلم والأبعد عن الخطر.. فيما غيرك يجابه وحده كل ألوان الخطر.. فتفكر في أن تحرق كل أوراقك، وتصنع لنفسك أوراقاً جديدة، لكنك في النهاية تحترق أنت.. وفي داخلك أشياء كثيرة تحترق..
تجد قلبك مفخخاً بألغامٍ كثيرة، ليس بالضرورة أن النظام قد دسّها فيه ذات ظلمة..
فهناك ألغام نصنعها نحن لأنفسنا ولغيرنا، ولا ندرك خطورتها إلا حين تنفجر وتدمَّر..
حين تقتل في داخلنا الأشياء الجميلة قبل أن تقتل أي أحد آخر..
حين ننزوي بعيداً حتى لا نواجه الحقيقة، وأمراضنا المتأصلة، والوصفة صعبة التطبيق، وفكرة العملية الجراحية، ومشرط الطبيب، ومرارة الدواء، وفكرة النقاهة تحت القصف والدمار داخل غرفة معتمة باردة رطبة تحيط بها الجرذان، وتتجول خارجها الأفاعي بغرور وقد باتت مملكتها على أرض تموت فوق ترابها العقارب.. ولا يعرف أهلها أن قتل الأفاعي ممكن ولكن ليس بالشجاعة وحدها، وأن قتل الأفاعي ممكن إذا أدركوا خطورتها، وتعاونوا بقلب واحد على القضاء عليها… إذا هدموا كل الحواجز التي أعاقت طويلاً طريق تقدمهم، إذا استعادوا من جدّهم إرث العقيدة والإيمان الذي كان عبره يوظف الذكاء والشجاعة، والعلم والخبرة، والتواضع والكرامة، والإتقان والإحسان..
إذا نفضوا حطام الماضي عن كواهلهم، وانتفضوا من جديد عمالقة من تحت الرماد..
حمص اليوم مترصّد بها غير مرصودة، وسلاحها في قلبها.. ولعلها باتت تفهم جيداً كيف تُصنع الانتصارات حقيقة، وكيف تصدّر للتاريخ من ملاحمها البطولات..
تعليق واحد
تنبيه: WilliamO