محمد دندشي
في تلك الليلة الماطرة وصلت الى تلكلخ لم أستطع إخفاء فرحتي بوصولي إليها، قبّلت الأرض بعد غياب ثلاثة سنين و نصف قضيت منها ثمانية أشهر أراها من بعيد وأحلم بالعودة إليها كي أرى المنزل الذي ترعرعت فيه و لكي أرى أخي.
وصلت و لم أستطع أن أقول لأي أحد أني قادم و ذلك لكي احافظ على السرّية و لأضمن وصولي اليها بأمان.
لم استطع النوم في تلك الليلة لم اشعر بالتعب ولا المشقة بالرغم من طول الطريق الذي مشيته سيرا على الاقدام كنت احمل فيها بندقيتي وبعض المعدّات الالكترونية.
فور وصولي رحبت بنا احدى العجائز لم استطع ان ارى وجهها من الظلام الحالك جعلتني اشعر كأنها امي احسست بدفئ الوطن بعد ذلك كان علي الركض في بعض الشوارع لكي لا نصاب بنيران القناصة في داخل المدينة و صلت الى منزل احد الاقارب و كان منزلا اثريا قديم ولكنه يعتبر مكاننا امن من القذائف والهاون لان جدرانه من حجارة الصوان السوداء القوية.
في صباح اليوم التالي استيقظت و ذهبت مع اخي في جولة الى منزلنا و الى (الحارة) ذهبت الى منزلنا و شاهدت المنزل الذي تضرر من جراء القصف و لكنه لم يتضرر بقدر المنازل البقية والحمد لله شاهدت سريري القديم و خزانة ملابسي تركت اخي قليلا لكي امسح دموعي لم استطع ان اخفي مشاعري اعلم انه منزل بالنسبة الى اي شخص ولكنه ذكريات الطفولة بالنسبة لي، و توالت الذكريات الي و الى سهرات الماضي و ضحكات اخي الصغير . غادرت المنزل و ذهبت الى السوق سوق تلكلخ القديم و كم تمنيت اني لم اذهب ولم ارى الدمار الحاصل و المنازل المخربة و الدكاكين المدمرة دكان اللحام و دكان الخضرجي انتقل السوق الى منطقة امنة و كانت الدكاكين متواضعة الان و لا يوجد زجاج في اي منها بل عبارة عن اكياس بلاستيكية كالتي تستعمل في البيوت البلاستيكية التي يزرع فيها المزارعون الخضار في فصل الشتاء كنت ارى الامل في عيون الباعة و المتسوقين لقدد استطاعوا ان يتغلبوا على الحرب وعلى كل شيئ بأقامة السوق الجديدة متواضعة نعم ولكنها تحمل الامل في كل شبر فيها .
في ذلك اليوم صادفت الكثيرين الذين رحبوا بي و الضحكة على وجوههم رغم الكثير من التغير في اشكالهم بسبب الاوضاع المعيشية التقيت بالكثير من الشباب من اصدقائي و كان اغلبهم مصابين فقد فقد احدهم اصابعه و اخر انطفئت عينه ولم يعد يرى بها التقيت بالعديد من المنشقين اللذين لدى كل منهم حكاية انشقاقهم و انضمامهم للثورة .
كنت امشي في المدينة وكأنني غريب عليها فالكل يرمقني بنظرات الاستغراب و نظرات لم اعهد مثلها من قبل حتى في بلاد الغربة كان علي ان اتعرف على اهالي المدينة مرة اخرى و اقول لهم من انا واعرف من هم.
صادفت الكثيرين من الأبطال الذين كنا نسميهم (زعران) من قبل الثورة فوجئت بالكثير من الاشخاص الذين اعتبرتهم من الطيبين و قد تحولوا الى وحوش في نظري الأن بعد تأييدهم للنظام و محاربتهم للثورة السورية.
شاهدت المدرسة التي درست فيها و كانت مدمرة تقريبا من قذائف النظام و من الهاون .
نقضي الليل بالسهر و احاديث الثورة و بطولات من نعتبرهم ابطال في نظرنا وعن الشهداء و قصص استشهادهم واحد تلك القصص قصة استشهاد البطل نور .
نور شاب في السادسة عشرة من عمره انضم للثورة من اول يوم فيها و حمل السلاح ليحمي اهله و عرضه استشهد باحد شظايا الهاون عندما كان يصد هجوم للشبيحة على تلكلخ.
خلال زيارتي كان علي ان اتجول في شوارع معينة و حتى الشوارع التي تعد آمنة الى حد معين ليست محمية بشكل كلي من رصاص القناصة ويجب علينا الركض في اماكن معينة من تلك الشوارع لقد تعلمت خلال عدة ايام التجوال في الشوارع لم يعد المنظر في الليل اضواء مدينة بل عدد قليل من اضواء الشوارع بالاضافة الى القليل من النور المتسلل من نوافذ المنازل الشبه مدمرة كان التجوال شبه مستحيل بعد مغيب الشمس وذلك لان القناصة لا يستطيعون تمييز المدنيين من العسكرين فكانوا يقومون باطلاق النار على اي شيئ يتحرك خلال الليل تعرضت لأطلاق نار من قبل القناص والحمد لله لم اصب بأي اذى عندما يسمع اهالي (التل) اي صوت اطلاق نار في الليل يتوقعون الاسوء وهوى اصابة احدهم بالرصاص خلال زيارتي ذهبت الى ما يسمى المشفى الميداني وخلال زيارتي قابلت الدكتور فرحان وهو الطبيب الوحيد الموجود في المشفى الميداني كما يسمى في تلكلخ المشفى الميداني عبارة عن غرفة لا تحتوي اي اجهزة طبية والجهاز الوحيد الذي شاهدته هوى جهاز التعقيم بالاضافة الى ادوات جراحية بسيطة جداً أما مستودع الادوية فلا يحتوي الا على القليل من الادوية شعرت بالأسى على الوضع في ذلك المشفى الميداني وشرح لي د.فرحان الصعوبات التي تواجههم خلال العمليات والنقص الحاد للمواد والاجهزة الطبية . في تلكلخ يدعوا الثوار ان يستشهدوا فور اصابتهم وذلك لانهم على يقين ان المشفى لا يحتوي على اي كادر طبي سوى د.فرحان ولا يحتوي على الاجهزة لتتم معالجتهم وكي لا يشكلون عبئ على الاهالي الذين يقومون برعايتهم وقد شاهدت العديد من الاصابات التي تحتاج الى عناية طبية ولكن للاسف …
في الليل سمعت اطلاق نار كثيف جدا كانت قوات النظام تقوم باطلاق النار العشوائي من جميع الحواجز لم نعرف السبب ولكنني شاهدت شرارة احتكاك الرصاص بالمنازل والشوارع كان الرصاص ينهمر على المدينة كالمطر ثم في اليوم التالي سمعت من احد الاشخاص في صالون الحلاقة القريب عن انشقاق عدد من الجنود من الرادار الواقع في حي البرج .في ذلك اليوم ذهبت لارى منزلنا الذي لم ادخله منذ اربع سنوات تقريبا لم يكن المنزل قد تضرر وكانت الاضرار عبارة عن بعض الرصاص الذي اخترق الجدارن وبعض النوافذ المكسورة اما بالنسبة للمنازل البقية في (حارتنا) فقد تضرر البعض والبعض الاخر قد سلم من القصف شعرت بالحزن عندما شاهدت (الحارة) فارغة من سكانها لم يعد هنالك اطفال تلعب خطر في بالي سهرات الصيف وحفلات النجاح واصوت الطبل والزمر وحلقات الدبكة …..
عند مغادرتي لتلكلخ شعرت وكأنني لن اعود اليها خلال زيارتي قمت بتصوير بعض الصور التذكارية مع الاصدقاء وبعض الصور للمدينة المحاصرة من جميع النواحي بالاضافة الى تصوير عدد من قبور الشهداء الذين دفنوا في الحدائق العامة وحدائق المنازل وذلك بسبب عدم قدرة الثوار للوصول الى المقبرة في المعارك .
وصلت في تلك الليلة الى قلعة الحصن وقد تبللت ملابسي كانت ليلة ماطرة لا استطيع التكلم عن الطريق وذلك خوفا من ان يكشف الطريق من قبل قوات النظام ولكنه كان شاقا بما فيه الكفاية فالرحلة من تلكلخ الى قلعة الحصن لم تكن بالشيئ العسير في ما مضى كانت لا تستغرق اكثر من حوالي العشرين دقيقة اما الان فهي رحلة شاقة ومتعبة وخطيرة في الوقت نفسه.
قابلني زملائي بالترحيب وكأنني قد عدت من سفر طويل انا الان في قلعة الحصن كم تمنيت ان ابقى في تلكلخ ولكن للاسف لم تعد تلكلخ التي اعرفها من قبل مع انني في رحلتي قابلت العديد من الاشخاص الطيبين والرفاق القدامى وهم من الذين ناضلوا لحوالي السنتين في الثورة.